شعرية الأشياء أو حضور الشيء شعرياً
«لا يلمس الملوك الأبواب،إنهم لا يعرفون هذه السعادة»
فرانسيس بونجفي مسرحية «الكراسي»، أراد يوجين يونسكو أن يعيد الاعتبار الى الشيء، أن يرفع من حضور المادة، بعد أن فقد ايمانه بالانسان. وأحسب أن جزءاً من مشاغل يونسكو أوصله الى أبعد من ذلك بعد أن نزعَ القداسة عن اللغة، ساخراً ومحطماً في الوقت ذاته موضوعة التواصل بين الكائنات. فعل ذلك أيضاً بيكيت، مع اختلاف في الدرجات والتناول، وأوصل بيكيت اللغة في نهاية المطاف، الى نقطة اللاعودة وعلى نحو حاسم وموجع: الصمت. كانت لغة التواصل تموت على يدي بيكيت بشكل مخيف، لذلك دخل هو نفسه في عزلة تامة تقريباً حتى رحيله.عطفاً على ما سبق، يمكن القول إننا قد نعثر أحياناً على ما يسمى بشعرية الاشياء، أي الاحتفاء بالشيء شعرياً وإنزالهِ منزلة الاشارة الاولى، ومهما بدت الذات الكاتبة في هذا النوع من المقاربة الكتابية للعالم، بعيدة كثيراً أو قليلاً، فإنه يصعب على اللغة أن تظهر «حياديتها».ما يحدث أحياناً هو العكس، إذ تبدي اللغة رغبة جارفة وحنيناً يكاد يكون مقصوداً، للاقتراب من الاشياء، لأنسنتها، أو حتى لتبادل المواقع معها. ينطبق هذا مثلاً على شعر الفرنسي غيللفك بقدر ما ينطبق على شعر فرانسيس بونج، وبقدر أقل ربما على فرناندو بيسوا أو آخرين. هذا الشيء الذي قد يكون، طاولة، كرسياً، حجراً، نافذة، سلماً، كأساً، ورقة، سريراً، باباً إلخ... هذه الطبيعة الميتة والصامتة، المخترقة شعرياً بكينونة الانسان.يصف فرناندو بيسوا لغة البشر، بأنها تضفي الشخصية على الاشياء أو تفرض لها اسماً، لكن الاشياء لا اسم لها ولا شخصية. الاشياء موجودة. رغم النبرة الحيادية في كلام بيسوا، لكنه سيتحدث في بعض كتاباته عن الشيء بنوع من الحنين، أو ربما الحسرة. غير أن بيسوا يبدو غنائياً، مقابل، الشاعر الفرنسي غيللفك، ففي شعر هذا الأخير تبدو الأشياء أكثر حيادية، أكثر استقلالية إذا جاز القول، ولأن علاقة شعر غيللفك بالطبيعة أكثر وضوحاً، فإن علاقة الذات بالموضوع، تبدو أقل التباساً. شعر غيللفك، شعر تأمل في الأشياء ووصف تحديدي صامت، من دون أن تنخرط الذات كثيراً، للاستيلاء على مساحةٍ أكبر مما ينبغي.يتحدث أدونيس، في تقديمه لشعر غيللفك، عن العودة الدائمة للأشياء، «وايقاظ الطاقات الكامنة القادرة على رؤية الأشياء في براءتها الأولى، كما لو انها تخرج لتوها من رحم الطبيعة». اما الفرنسي فرانسيس بونج «1899-1988»، فيكفي أن نذكر عمله الرئيس الأول «التحيّز للأشياء»، وهو عمل يصب في مجمله في حقل التساؤل والتأمل الدقيق في عالم الأشياء، انه يرتهن منذ البداية الى عملية اصطدام حاد باللغة، بعبارة اخرى اختار بونج لنفسه أن يؤسس ما يمكن ان يسمى بـ«بلاغة الأشياء»، بواسطة الكلمات، تلك العلاقة المدهشة ما بين النص والشيء، والتي يعود مرجعها الاساس الى العالم الخارجي، المحسوس، المادي.بونج أيضاً هو أحد المتأملين الكبار في الطبيعة، في الوحدات الصغرى للعالم. انه يكتب قصائد عن الحصاة، عن حبة رمل، محارة، صدَفة، نبتة يابسة، أو شمعة. كأنما ليُزيح قليلاً مركز ثقل الانسان، هناك استحواذ وحفر يقظ وعميق في اتجاه الشيء. وكانت هذه الفكرة أيضا وراء اعجابه وولعه برسامي الطبيعة الميتة، وبإعطاء الكلمة المعبّرة عن الشيء قوة الحضور واللمعان.«لا نصنع نصوصاً بالافكار، بل بالكلمات»، هذا ما يؤكد عليه.وفي لقاء قديم معه اجراه، فيليب سولرز يقول بونج «إن التدوين في معظم الأحيان، يكون في قوة الشيء نفسه المعنيّ بالكتابة».هل تعيش الأشياء مستقلة، بعيدة عنا؟ هل تمتلك «حقيقتها» وبالتالي حضورها الشعري، بعيدا عن مدركاتنا وحواسنا؟ تلك موضوعة فينومنولوجية بامتياز.