إذا حاول الأميركيون التمادي بمحاولات اللعب في المجالات الحيوية الروسية في القوقاز وغير القوقاز، فإن الرد الروسي سيكون باستهداف الرئيسين الجورجي ميخائيل ساكشفيلي والأوكراني فيكتور يوتشينكو واستعادة هاتين الدولتين- اللتين أصبحتا مشاغبتين- إلى بيت الطاعة.حتى لو انسحب الجيش الروسي، الذي استخدم القبضة الحديدية واسلوب الحرب السريعة الخاطفة، من جورجيا فعلاً، وهو بالتأكيد لن ينسحب لا من أبخازيا ولا من أوسيتيا، فإنه لا يجوز اعتبار أن صفحة «القوقاز» غدت مطوية، وأن الولايات المتحدة ستقبل بابتلاع هذه الإهانة التي تلقتها في أصعب الظروف وأسوأها. فالسكوت عما جرى يعني القبول بأن عالم القطب الواحد قد انتهى والتسليم بعالم إن لم يكن متعدد الأقطاب، فهو ثنائي القطبية.
ما أشبه اليوم بالأمس، ففي مطلع ستينيات القرن الماضي شعر الاتحاد السوفييتي بقوة متزايدة بعد نحو ستة أعوام من قمع تمرد «المجر»، الذي كان محتضناً من قبل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فأرسل نيكيتا خروشوف، متحديا الأميركيين في عقر دارهم، صواريخه إلى كوبا التي كانت في ذروة عنفوانها الثوري، وهكذا كادت أن تندلع حرب عالمية ثالثة لولا التراجع المتبادل بين أمين عام حزب الامبراطورية السوفييتية والرئيس الأسبق جون كيندي الذي وضعه ذلك التحدي في موقف صعب لم يوضع فيه أي رئيس أميركي لا سابق ولا لاحق.
والآن... بعد أن حصل ما حصل، يبدو أن العالم ذاهب بخطى حثيثة نحو حرب باردة جديدة. فالأميركيون ردَّوا على اجتياح الدبابات الروسية الصاعق للجمهورية الجورجية «الديمقراطية»! التي يعتبرها الغرب دولة مستقلة، وهي ليست كذلك، الذي يذكِّر باجتياح المجر في عام 1956 واجتياح تشيكوسلوفاكيا السابقة في عام 1968، باتخاذ قرار عاجل بإقامة شبكة صاروخية في بولندا، وبزف البشرى للشاب الديمقراطي ميخائيل ساكشفيلي بقبول بلاده عضواً في حلف شمال الأطلسي، والإعلان عن نية مماثلة بالنسبة لـ«أوكرانيا». ويبدو أن هناك خطوات استفزازية أخرى على هذا الطريق ولو من قبيل رد الاعتبار وحفظ ماء الوجه، وخصوصا أن معركة انتخابات الرئاسة الأميركية بدأت تقترب من ذورتها.
وبالطبع، فإن الرد الروسي لم يتأخر فقد أعلنت موسكو أن قواعد الصواريخ الأميركية في بولندا ستكون منطقة أهداف نووية، وأنها لن تسمح بضم لا جورجيا ولا أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. والمؤكد أن هناك مفاجآت كثيرة سيبادر الروس إليها إذا واصل الأميركيون استفزازاتهم المتلاحقة، إن في دول أوروبا الشرقية، وإن في المجالات الحيوية الروسية في القوقاز وفي ما وراء القوقاز وفي منطقة بحر قزوين.
الأميركيون، وهم يطالبون بـ«أنه إذا كانت القوات الروسية قد دخلت جورجيا على وجه السرعة فإنه ينبغي عليها أن تنسحب على وجه السرعة أيضا»، فإنهم يعرفون أن هذا الانسحاب المتباطئ الذي بدأ بتثاقل قبل يومين لن يشمل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، فهاتان المنطقتان تعتبرهما موسكو منطقتين روسيتين، وتعتبرهما أيضاً منطقتين استراتيجيتين بالنسبة الى الأنابيب الناقلة للطاقة من أذربيجان وبحر قزوين، لذلك فإن الوجود الروسي، العسكري والسياسي، فيهما سيتعزز من الآن فصاعداً وسيصبح أضعافاً مضاعفة قياساً بما كان عليه في السابق.
والمؤكد، استناداً إلى كل ما يقال وما تتناقله وسائل الإعلام يومياً منذ بدء هذه الأزمة الطاحنة، فإذا حاول الأميركيون التمادي بمحاولات اللعب في المجالات الحيوية الروسية في القوقاز وغير القوقاز، فإن الرد الروسي سيكون باستهداف الرئيسين الجورجي ميخائيل ساكشفيلي والأوكراني فيكتور يوتشينكو واستعادة هاتين الدولتين -اللتين أصبحتا مشاغبتين- إلى بيت الطاعة، وعلى غرار ما هو عليه الوضع بالنسبة الى بقية منظومة ما يسمى «الدول المستقلة» التي بعد هذا الاستقلال أصبح ارتباطها بموسكو من الناحية الفعلية أكثر مما كان عليه زمن الاتحاد السوفييتي السابق.
لقد أصبح العالم بعد تطورات الأيام الأخيرة على جبهة القوقاز أمام واقع جديد، وهو واقع الحرب الباردة، التي ساد اعتقاد في بدايات عقد تسعينيات القرن الماضي بأنها رحلت بلا عودة. وهذا يجب أن يتعاطى معه العرب بمنتهى الجدية... فالشرق الأوسط سيكون إحدى ساحات هذه المواجهة الجديدة المتوقعة بين الشرق والغرب والمنطقة العربية، وكما أنها لم تسلم في السابق من صراع المعسكرات فإنها لن تسلم هذه المــرة أيضا إذا بقي أهلها يتعاطون مع ألاعيب الأمم بطرقهم التقليدية- البدائية المعروفة.
*كاتب وسياسي أردني