لم يعد «التعذيب» المحرّم دولياً آفة من آفات البلدان المتخلفة أو النامية فحسب، وإنْ كان ظاهرة مستفحلة ومستشرية فيها على نحو مريع، لكن التقارير الدولية المعتمدة بما فيها لعدد من المنظمات العالمية ذات الصدقية والنزاهة، أشارت بإصبع الاتهام منذ وقت مبكر إلى ممارسة التعذيب من جانب القوات الأميركية في العراق، وقد كانت فضيحة «سجن أبو غريب» إحدى الفضائح الدولية التي اهتزّ لها الضمير الإنساني، وهو ما نشرته وسائل الإعلام الأميركية قبل غيرها.

Ad

ويتكرر الأمر إزاء ما يحصل في السجون الأميركية في أفغانستان وفي سجن غوانتنامو والسجون السرية الطائرة والسجون السرية العائمة، خصوصاً تلك التي جرى الحديث عنها في أوروبا أو في عرض البحر.

لقد ارتفعت بعض الأصوات أخيراً في الولايات المتحدة التي تدعو إلى ملاحقة مرتكبي الجرائم ضد حقوق الإنسان، والتي ألحقت ضرراً بليغاً بسمعتها، وكانت وزارة العدل الأميركية قد أعلنت بعد تولي الرئيس باراك أوباما المسؤولية في البيت الأبيض، أنها ستتعامل بشكل قانوني مع نتائج التحقيقات مع المسؤولين في إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش، الذين كانوا وراء سياسات الاستجواب التي اعتمدتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA والجيش الأميركي (البنتاغون) مع المعتقلين في العراق (لا سيما في سجن أبو غريب) وأفغانستان وقاعدة غوانتنامو وسجون أخرى.

ويبدو أن كبار مسؤولي إدارة الرئيس بوش مازالوا يستخدمون تقنيات التخويف لعرقلة الكشف عن عمليات التعذيب، وحسب ما يبدو فإن إدارة أوباما تتجه إلى نشر الوثائق بشفافية، منها استخدام تقنيات تعذيب نفسي ومادي تشمل الإغراق في الماء (نحو 138 مرة في قضية واحدة وأكثر من 260 مرة إزاء محتجزين آخرين)، الأمر الذي ليس له أي مبرر قانوني أو نساني، رغم أن الإدارة السابقة حاولت إعداد غطاء قانوني (إذن قانوني) لتلك السياسات غير القانونية، في محاولة لحماية المسؤولين الحكوميين والسماح لهم بممارسة التعذيب بتحريف معناه من خلال بعض الثغرات القانونية، أي جعل غير الممكن قانونياً، قانونياً بالتفسير أو بالتبرير!.

وقد حاول نائب الرئيس السابق ديك تشيني الادعاء بأن بعض التقنيات هي وسيلة فاعلة للحصول على المعلومات الموثوقة من إرهابيين خطرين، وهو الكلام نفسه الذي ادعاه الرئيس بوش بخصوص «أبو زبيدة»، الذي أخضع «لتقنيات بديلة» على حد تعبيره، الأمر الذي يعتبر على خلاف شديد مع اتفاقية تحريم التعذيب ومع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

وكان باتريك ليهي رئيس لجنة الشؤون القضائية في مجلس الشيوخ الأميركي قد دعا إلى تشكيل لجنة تحقيق للوصول إلى حقيقة ارتكاب أعمال منافية للقانون الدولي وللقانون الأميركي في عهد إدارة الرئيس بوش، واستناداً إلى تصريح الرئيس أوباما: أن لا أحد فوق القانون، أي خارج نطاق المساءلة... فإنه يعتبر إشارة إلى إمكانية الشروع بالإجراءات القانونية والتحقيق في ما يتعلق بالتهم المسنودة إلى عدد من المسؤولين.

وقد أوردت صحيفة الإندبندنت البريطانية على لسان أحد الخبراء الماليين والاقتصاديين وهو باتريك كوكوبورن أن بعض المسؤولين في إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، متورطون في جرائم نصب ونهب لمبالغ تصل إلى 152 مليار دولار أميركي بالتعاون مع بعض المسؤولين العراقيين، وهو رقم مخيف حتى بمعايير الفساد المعروفة على الصعيد العالمي.

ولعل إعلان وزارة العدل الأميركية يمثل خطوة إيجابية مهمة على صعيد كشف الانتهاكات السافرة والصارخة لحقوق الإنسان، سواءً في وقت الحرب أو في وقت السلم، ولاسيما بفعل الغزو والاحتلال وما ترتب عليه من مسؤوليات. ولا بدّ من حشد الجهود والطاقات الحقوقية والقانونية، وبمساعدة من جهات دولية لكي تأخذ العدالة مجراها، ويتم تقديم المسؤولين إلى القضاء الأميركي أو الدولي، علماً بأن الجرائم المرتكبة هي جرائم دولية يحاسب عليها القانون الدولي وتخص شعوباً وأمماً، تعرضت للغزو والاحتلال بصورة غير شرعية، ودون تفويض من الأمم المتحدة، ناهيكم عن تعارضها مع قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. وإذا كنّا نتحدث هنا عن التعذيب، الذي تم استخدامه بصورة روتينية بإعطاء الضوء الأخضر لانتزاع اعترافات من المتهمين تحت ضغط نفسي ومادي، بما فيه من إيهامهم بالغرق، فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما أنها لا تعفي بعض صغار العسكريين عن التهم الموجهة إليهم، بحجة تلقّيهم الأوامر من مرؤوسيهم، فاتفاقيات جنيف العام 1949 وملحقيها العام 1977 الصادرين عن المؤتمر الدبلوماسي (بروتوكولي جنيف): الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية، لا تعفي المرتكبين من المساءلة، الأمر الذي يستوجب ملاحقة كبار المسؤولين بمن فيهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ونائب الرئيس ديك تشيني، وهو الأمر الذي يشمل بطبيعة الحال الرئيس السابق جورج دبليو بوش، خصوصاً أنه اعترف أن غزوه للعراق كان بناءً على معلومات مضللة، الأمر الذي يؤكد مسؤوليته عن جميع الأضرار التي لحقت بالعراق وشعبه، بشرياً ومادياً ومعنوياً.

ولعل مثل هذه الاعترافات، فضلاً عن إعلان وزارة العدل الأميركية بممارسة التعذيب للمعتقلين في ظل إدارة الرئيس بوش، تلقي مسؤولية جديدة على الرئيس أوباما، لكي يواصل إجراءاته لملاحقة المسؤولين، ووضع وعوده في الانسحاب وفي تصحيح صورة أميركا أمام العالم موضع التطبيق، ففي ذلك اختبار حقيقي، لاسيما إذا اتسمت تلك الإجراءات بشجاعة وصدقية لتعويض الضحايا وجبر الضرر ومحاسبة المسؤولين عن ذلك والاعتراف الأخلاقي والأدبي والقانوني للولايات المتحدة.

وإذا كانت الارتكابات تعتبر جرائم دولية في إطار مفهوم الحرب العدوانية وفقاً لتعريف ماهية العدوان في القانون الدولي العام 1974، وهي جرائم ضد سلم وأمن العالم، الذي يعتبره ميثاق الأمم المتحدة الهدف السامي للبشرية، فضلاً عن ذلك فهي جرائم حرب ارتكبت ضد قوانين الحرب وأعرافها لاسيما اتفاقيات لاهاي العام 1899 والعام 1907 وجنيف العام 1929 والعام 1949 وملحقيها العام 1977، خصوصا ما يتعلق بحماية المدنيين وأسرى الحرب والجرحى وحماية المناطق غير المتحاربة والأشخاص المشمولين بالحماية، سواءً كان النزاع دولياً أو غير دولي.

يضاف إلى ذلك فإن قوات الاحتلال ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية تستوجب مقاضاتها طبقاً لنظام محكمة روما الأساسي «المحكمة الجنائية الدولية» التي تأسست العام 1998 ودخلت حيز التنفيذ العام 2002، ولعل تهمة الجرائم ضد الإنسانية هو ما أقرته اللجنة الدولية للصليب الأحمر والعديد من كبريات المنظمات الحقوقية العربية والدولية، بما فيها منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة الشرق الأوسط وبالطبع المنظمة العربية لحقوق الإنسان.

لعلها مفارقة حقيقية حين تدعو الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية لمحاكمة رئيس عربي (الرئيس السوداني عمر حسن البشير) لارتكابه جرائم في دارفور، في حين أنها ارتكبت جرائم دولية مركبة على جميع الصُعد، كما أنها تغض الطرف عن جرائم إسرائيل ضد الشعب العربي الفلسطيني خلافاً للقانون الدولي، وعلى مدى ستة عقود ونيف من الزمان، بل إن إسرائيل تحظى رغم كل ذلك بدعم أميركي مستمر.

إن جريمة التعذيب تتجلى في التعذيب المادي والمعنوي والتجويع والاعتقال التعسفي والمعاملة غير الإنسانية أو الحاطة بالكرامة، فضلاً عن الأشخاص المحميين أو بهدف الحصول على معلومات أو التستر على مصائر المعتقلين أو الأسرى أو الحبس الانفرادي، أو الاستخدام المفرط في القوة وهذه جميعها جرائم يحاسب عليها القانون الدولي الإنساني، فهل سنشهد مساءلات قانونية واستجوابات قضائية لكبار المسؤولين الأميركان في عهد الرئيس بوش، الذين رسموا خطط الغزو والاحتلال طبقاً لمعلومات مضللة، بما فيها المزاعم التي أطالت من أمد الحصار الدولي لمدة 13 عاماً، أو من جرّاء إصدار الأوامر وإعطاء «الإذن» لإعفاء مرتكبي التعذيب من المساءلة القانونية.

* باحث ومفكر عربي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء