سؤال النقد الشعري

كثيرة هي الخطابات النظرية والنقدية في العالم العربي، المهتمة بشأن الشعر العربي المعاصر، وهذه الكثرة لا تدل بالضرورة على وعي واستقامة لمقاربة النص الشعري، بتلاوينه المختلفة، طالما أن أغلب هذه الطروحات تذهب الى إضفاء مصداقية نظرية للمنهج، أكثر مما تذهب الى مقاربة النصوص الشعرية بمرونة وروح منفتحة كي لا أقول بأريحية ومحبة. هنا تنشأ تلك الهوة ما بين الجزء النظري والجانب التطبيقي، على النص موضوع الدراسة. ثم ان أغلبية هذه المناهج، المستقاة، غالبا من المنظومة المعرفية الغربية، ولا اعتراض على ذلك، تطبق بكيفية قد لا يبدو فيها النص الشعري يزداد ثراء وعمقا، وبالتالي يتم استقباله من قبل المتلقي كعلامة دالة لمساءلة الوجود. وبعض هذه المناهج تزاوج ما بين «صناعة الشعر» بالمفهوم العربي القديم، ومختلف أشكال النظريات الشعرية والنقدية الغربية، فيتم استدعاء الجرجاني وابن جني، إلى جانب ياكوبسون ورولان بارت وجيرار جينيت وسواهم، في محاولة توفيقية، غير واضحة المعالم في أغلب الاحيان.

بعض هذه المناهج يكون فضفاضاً إلى درجة إخفاء النص المدروس، والبعض الآخر يقارب مفاهيم عميقة وبالغة الخطورة (الموت، المكان، الغياب، الأسطورة، الحنين، الخ..) ولكن عبر نصوص مجتزأة، أو فقيرة أصلاً.

بل اكثر من هذا، إذ تذهب بعض الدراسات النقدية إلى المبالغة في طرح تطبيقات تكاد تكون متعسفة وحرفية، على قصائد أو مقاطع من القصائد، بحيث لا يبقى في ذهنك فور انتهائك من القراءة سوى أثر معادلات رياضية، وأسهم ودوائر، وعلامات ترقيم. أي باختصار تجريدات محضة. كأن هذه القصائد لم تحمل يوماً، نَفَس الشاعر وألمه أو فرحه، أي باختصار أيضاً تغيب تجربة حياة الشاعر نهائياً. والمفارقة في الأمر أن الأصل، أي قراءة النقاد الغربيين، فلنقل، رولان بارت، أو موريس بلانشو، أو حتى لوسيان غولدمان، صاحب البنيوية التكوينية، أقول إن، في كتابات البعض من هؤلاء، يكمن قدر من الشفافية، والوضوح الفكري، والقدرة على تبيان العمق في النصوص المدروسة او الأفكار المطروحة. انظر مثلاً إلى الرشاقة والعمق في التحليل والتأويل، للنصوص الشعرية التي استشهد بها باشلار في كتابه «جماليات المكان».

* * *

في الماضي القريب كنا نقرأ، بمتعة، دراسات نقدية كانت تحمل إلينا ألقاً معرفياً غنياً ومن قرأ خالدة سعيد على سبيل المثال في كتابيها «البحث عن الجذور» و«حركية الابداع في الادب العربي الحديث» يدرك ما قاله عنها انسي الحاج، ذات مرة بأنها تتميز ليس بالعلم، ليس بحدة الذكاء، ليس بيسر المقارنة وحسب بل بشاعريّة الرؤيا.