يشير الكاتب اللبناني خالد زيادة في كتابه «الخسيس والنفيس» الى المدينة الإسلامية التي تعبّر عن المشهد الإنساني المتنوّع والكثيف، فثمة بالإضافة الى التجار والحرفيين والمتكسبين، الشحاذون والقوالون والحواة والقرادتية والمهرجون وسواهم.

Ad

السوق والمسجد ركنا حياة هذه المدينة اليومية، وأمام الصرامة التي يفرضها ارتياد المسجد من خلال القواعد التي رسمها الفقهاء، فإن السوق الذي رأى هؤلاء ضرورة ضبط معاشه وأحواله، كان موقعاً ممتداً للنشاط الإنساني من كل نوع، إذ يتضارب فيه العمل باللهو والجد بالبطالة، والخاص بالعام والنفيس بالخسيس.

كان السوق مرتعاً لأنواع «الصعلكة» فضلاً عن تنوّع الناس وأصواتهم. الصعلكة علامة من علامات الحرية والتمرّد والفرادة في المدينة الإسلامية والتاريخ العربي، وليس الصعلوك شتيمة أو إشارة الى فكر مغاير لا يحبّذه عشاق البلاط.

البحث عن نمط الحياة اليومية، وحياة اللهو، يدفع باتجاه مصادر متعددة، فأصحاب «المقامات»، الحريري والهمذاني، يعكسون حياة الهذر واللهو بأبطالها من المتسكعين والمتكسبين وسواهم، كما تعكس المقامات حياة التجار والعلماء والحرفيين. يقدم الفقهاء انطباعاً صارماً عن الحياة اليومية في المدينة لتنوّع القواعد التي يشترطونها، وخلف هذه الصرامة ينكشف وجه آخر، فكثرة القواعد والموانع توحي بوفرة النشاط الذي يواجه المراقبة والمنع، ويقترب من حد الهزل واللهو أو يتجاوزه. تعطي الرسائل الفقهية فكرة عما يشتمل عليه السوق، من أشخاص يمسكون الحيات والعقارب بأيديهم، ويضعون أسنان الحيوانات حول أعناقهم، وتكتمل الصورة بالقوالين الذين ينشدون الأشعار والقرادتية والمشعوذين والشحاذين، فضلاً عن بائعي المواد من كل نوع.

يتطرق أحد الفقهاء الى منكرات الأسواق، وهي كثيرة، حتى يصل الى ضرورة منع: {بيع آلات اللهو المحرمة والتماثيل المجسدة، وأواني الذهب والفضة وثياب الحرير». ويشير الى الألعاب المصورة والعرائس.

تركت هذه الموانع الفقهية آثاراً جمة على عادات اللهو والتسلية. وحتى زمن بعيد كان إظهار النرد والشطرنج من الأمور المكروهة. وقد تشدد الفقهاء وأهل الحديث في ذلك، وأثرت هذه الموانع في أهل التقوى. لكن الموانع لم تستطع دائماً لجم العامة الذين يطلقون لنفسهم العنان في المواسم والأعياد، خصوصاً في المناسبات الدينية أو السلطانية، فتعتبر هذه المناسبات مواعيد للهو والهذر والتسلية.

في الثقافة يصعب الفصل بين عنصري اللعب والجد، لأن النشاط الفكري لأي عصر من العصور، ينطوي بدرجة تتفاوت زيادة ونقصاناً على سمة من اللعب، لكنه لعب جاد.

على أن كرة القدم تكشف ما هو أكثر، فمع التماثل في لعبة موحدة عالمياً، يختلف أسلوب اللعب وقد قال أحد الكتاب: «قل لي كيف تلعب أقل لك من أنت». اللعب الثقافي يشبه لعب الكرة، اللعب في الكلمات والأفكار، اللعب في تصدير الأفكار، اللعب في جوهره ضد الايديولوجيا وجزء من صناعة الحركة والحياة.

ثقافة من دون لعب في الكلمات والعبارات تشبه الصخور، ومدينة

من دون لعب وهذر سيكون مصيرها الموت.

اللعب جزء من روح المدن، تماماً كما النساء والحب والموت. من يحارب اللعب هو من يسعى الى الوجوم والدكتاتورية والجمود والهذيان.