Ad

الحرب الباردة انتهى أمرها إذن، أقله وفق تلك الصيغة التاريخية المعلومة التي شهدها النصف الثاني من القرن المنصرم، وإن جدّ مستقبلا ما يشابهها، من حيث الاستناد إلى أسلحة الدمار الشامل.

هل هي عودة الحرب الباردة، تلوح نذرها أو بشائرها (يتوقف الأمر على الموقف منها تمنّيا أو توجسا) من منطقة القوقاز، ومن حربها التي استشرت أياما وجيزة في جورجيا، فما وضعت أوزارها (إلى حين؟) إلا كي تنتقل بالعالم من طور إلى طور؟

ليست الإجابة عن هذا السؤال بالأمر اليسير، يستسهله المراقبون، فيفتون بشأنه بالإيجاب الجازم أو بالنفي المبرم، في تعليقات يكتبونها في يومهم وينسونها في غدهم، بل إن الإجابة تلك تتطلب التبصر وتستدعي الأناة، فهي تتعلق بشأن بالغ الخطورة، إذ يترتب على الأخذ بأحد الاحتمالين سياسات تُصاغ واستراتيجيات تُتوخى من قبل دول أو فئات في مجالنا العربي هذا، قد تُلزم إلى أمد بعيد وقد تنجرّ عنها تبعات يعسر، إن حصلت، تداركها.

من دواعي الحذر في هذا الصدد أن «العقل الإعلامي»، إن جازت هذه العبارة، والدائرون في فلكه عندنا كتّابا ومحللين و«مفكّرين»، ميّال في الغالب إلى القياس السهل على ما حصل أو انقضى لتوّه. وهكذا فإن كل تصدع أهلي يشهده بلد بعد نظير له جدّ في لبنان هو «لبننة» أو منذر بـ«بلبننة»، أو هو «صوملة» إن جاء بعد تشظي الصومال أو هو «أفغنة» أو «عرقنة»، وهلمّ جرا، في مقاربة تُغفل أوجه الخصوصية في الحادثة أو النازلة موضوع التناول، ما دام يُصار إلى إحالتهما إلى «سابقة»، أُرسيت بدورها على النحو إياه، فتطمسهما عوض أن تضيئهما. وهكذا أيضا، وبما أن توترا قد طرأ وبلغ من الشدة ما بلغه بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن جورجيا وسائر القوقاز، فإن المثال الأقرب إلى الأذهان والذي يُستحضر استحضارا آليا هو، بطبيعة الحال، مثال «الحرب الباردة»، يُستنطق بها مستجدّ قد يكون مختلفا عن سياقها وعن منطقها كل الاختلاف.

غير أن الاستحضار، في هذه الحالة، يشوبه التمني أو تُلابسه رغبة جرى إسقاطها، عن وعي أو عن غير وعي، على الحدث الجورجي. إذ يشدّ قطاعاتٍ واسعة من نخبنا ومن المعنيين بالشأن العام، على سبيل الممارسة المباشرة أو على سبيل إنتاج المعنى، حنينٌ إلى حقبة الحرب الباردة، يُسرف ويوغل في الإسراف حتى يبلغ مبلغ اللاعقلانية. يدرج الحنين ذاك فترة الحرب الباردة في «زمن جميل» مُفترض، ضرب من عصر ذهبي أو ما يقوم مقامه، في حين أن الأمر، أقله على ذلك الصعيد السياسي والاستراتيجي، لم يكن البتة كذلك. كانت دول العرب منقسمة، إبان تلك الفترة، قدر انقسامها الآن أو أكثر، تتوزع بين المعسكرين السابقين، وكان بينها توتر مستدام مُحتدّ، يستفحل شجارا إعلاميا ومواجهات مسلحة أحيانا. أما عن الدعم السوفييتي، فلم يعصم، على وجوده الذي لا يُنكر، لا من هزيمة حرب 1967 ولا من هزائم لاحقة.

صحيح أن فترة الحرب الباردة كانت تقيم توازنا مع القوة الإسرائيلية، ولكن التوازن ذاك ظل نظريا، أو أنه كان محدود الفاعلية إن لم يكن عديمها على مجريات الصراع مع الدولة العبرية، ما دفع بالرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى الانتقال ببلده إلى المعسكر المقابل، عله ينال منه، وقد نال، ما تعذر عليه نيله من موقع العداء.

قصارى القول أنه ربما تعيّن طي صفحة الحنين إلى الحرب الباردة أسوة بما يبدو أن روسيا نفسها، بالرغم مما يوحي به ظاهر الأمور، فاعلة. فما حققه رجل الكرملين القوي، فلاديمير بوتين، في جورجيا، إنما هو في حقيقته إعلان كفّ بلاده عن بذل تكاليف الهزيمة في تلك الحرب، وطي صفحة هذه الأخيرة تبعا لذلك، على ما سبقت الإشارة في غير هذا الموضع. لبوتين حنين لا يخفى للاتحاد السوفييتي، لا يتردد في الجهر به تعبيرا عن الإعجاب بستالين مثلا، ولكنه حنين مُعقلن أو عقلاني، فهو يعلم أن التاريخ لا يعود أدراجه، وأن القارة الأوروبية التي كانت الساحة المركزية للمواجهة آلت إلى النفوذ الأميركي على نحو لا رجعة فيه، أقله في المستقبل المنظور، وأن بلاده ينتظرها مسار انبعاث طويل مديد حتى تستعيد مكانتها، إن قُيض لها استعادتها، منافسا أوحد للقوة الأميركية.

الحرب الباردة انتهى أمرها إذن، أقله وفق تلك الصيغة التاريخية المعلومة التي شهدها النصف الثاني من القرن المنصرم، وإن جدّ مستقبلا ما يشابهها، من حيث الاستناد إلى أسلحة الدمار الشامل رادعا يقوم على الابتزاز وبالإفناء وبالفناء، فسيكون ذلك ضمن لعبة متعددة الأطراف، ثلاثية على الأقل، يلتحق بها الطرف الصيني، الذي لم يكن في الفترة السابقة قد بلغ من القوة ما يحوز عليه الآن.

كف العالم إذن، عن أن يكون قائما على استقطاب ثنائي منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزاها، ثم إنه كف عن أن يكون خاضعا لأحادية قطبية مع ما يلوح راهنا على النفوذ الأميركي من انحسار... ألا يعد ذلك أمرا مهما، يفتح آفاق المستقبل، لمن كان قادرا على الإقدام عليه بشيء من خيال ومن إبداع، ولا يتوقف عند اجترار «أزمنة جميلة» وهمية؟

* كاتب تونسي