مآذن لها تاريخ مئذنة المنصورة في تلمسان

نشر في 14-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 14-09-2008 | 00:00
No Image Caption
تقف صومعة المنصورة قرب تلمسان، كشاهد عيان على عظمة بناء القلعة التي كانت تحمل هذا الاسم، بعد أن اندثرت آثارها بما في ذلك جامع المنصورة الذي بقيت منه هذه المئذنة.

وتلمسان هي حاضرة المغرب العربي الأوسط “الجزائر” منذ ما قبل الإسلام، فقد كانت دار مملكة زناتة، وكانت مدينة محصنة لها سور به خمسة أبواب، وهي بموقعها الجغرافي تعتبر البوابة الأولى للمغرب الأقصى، واشتهرت بأنها دار للعلماء والمحدثين وأهل الرأي على مذهب الإمام مالك.

وبعد أن خضعت تلمسان لدولة الأدارسة العلويين، استولى عليها الجيش الموحدي في عام 541هـ أيام الخليفة عبدالمؤمن بن علي وأدى انهيار دولة الموحدين إلى نشأة أربع دول على أنقاضها، وهي الدولة النصرية أو دولة بنو الأحمر في غرناطة وما تبقى من الأندلس وبنو مرين في المغرب الأقصى، وبنو حفص في تونس وشرق الجزائر، وأخيرا بنو عبدالواد في المغرب الأوسط وحاضرتهم مدينة تلمسان وضاحيتها أغادير.

ونشبت الصراعات بين هذه الدول الصغيرة، مما أثر إلى حد كبير على قدرة المسلمين على الدفاع عن أراضيهم، حتى انتهى الأمر بسقوط الأندلس، وتعرض الشواطئ الإسلامية في جنوب المتوسط لإغارات مدمرة من السفن الإسبانية والبرتغالية أيضا.

ويعتبر بنو عبد الواد الذين حكموا المغرب الأوسط أضعف هذه الدول، وأقربها إلى البداوة، ورغم ذلك فقد حكمت دولتهم هذه الأنحاء لمدة ثلاثة قرون تقريبا “627 - 957هـ”، “1556م” وعرفت في التاريخ باسم دولة بني زيان وتعد الدولة الزيانية دولة جزائرية صرفة، إذ اتخذ بنو عبدالواد تلسمان عاصمة لهم وهم ينتسبون إلى بنو واسين الزناتيين، وكانوا في أول أمرهم بدو، ثم دفعتهم الغزوات الهلالية غربا، حيث أقطعهم عبدالمؤمن بن علي بن علي جزءا من أراضي دولته في غرب الجزائر، وما إن ضعف سلطان الدرلة الموحدية حتى قام كبير بنو عبدالواد وهو أبو يحيى بن زيان بإعلان نفسه أميرا مستقلا على تلمسان وما حولها ولكن هذا الاستقلال لم يتح لتلمسان أي قدر من الهدوء إذ تعرضت على الدوام لهجمات جيرانها الأقوياء، وخاصة من بني مرين في المغرب الأقصى وأمراء الحفصيين في تونس، حتى أن الأمير الحفصي أبا زكريا نجح في اقتحام تلمسان وأجبر أميرها على الفرار منها في سنة 640هـ.

وإزاء هذه الهجمات المتكررة أنشأ بنو عبدالواد قلعة ضخمة عرفت بالمنصورة غرب تلسمان للتحصن بها من إغارات جيرانهم، ورغم ذلك نجح بنو مرين غير مرة في اجتياح تلسمان، حتى أنهم استولوا عليها وضموها إلى بلادهم في عهد أبي الحسن علي بن أبي سعيد المريني في منتصف القرن الثامن الهجري 14م.

أطلال:

ولم يتبق من المنصورة سوى أنقاض أسوارها وصومعة جامعها، التي تشبه إلى حد بعيد صومعة حسان بالرباط، فهي ذات بدن متعامد الأضلاع ينتهي بشرفات فوقها طابق آخر أقل اتساعا من القاعدة، ويوجد بها من الداخل عدد من الحجرات المتطابقة بعضها فوق بعض، ويصعد إلى هذه الحجرات بواسطة منحدر يلف حولها، وفتحت في إحدى جهات القاعدة فتحة المدخل المتوجة بعقد أندلسي يجمع بين طرازي حدوة الحصان والعقد المدبب، ويلي ذلك عدة شبابيك لإضاءة الحجرات المتطابقة والمنحدر الصاعد إليها وهي موزعة على أربعة ارتفاعات أو مستويات، في الأول منها فتحة واحدة لها عقد أندلسي يرتكز على عمودين صغيرين، ونرى مثيلا لها في المستوى الثالث، أما المستوى الثاني ففيه ثلاثة عقود ولكن الأوسط منها هو المفتوح فقط، بينما نجد في المستوى الرابع بائكة من خمسة عقود أندلسية تحملها ستة أعمدة، ولكن العقد الأوسط منها فقط هو الذي فتح به شباك للإضاءة.

وتعتبر صومعة المنصورة بتلمسان إحدى مآذن ثلاث شيدت في بلاد المغرب، على غرار المئذنة الأندلسية الشهيرة التي شيدها الموحدون بأشبيلية، والمعروفة اليوم باسم الخيرالد، فهنالك صومعة حسان بالرباط وصومعة أخرى باقية وحدها وسط مناطق البربر، وهي كل ما تبقى من مسجد قلعة بني حماد الصنهاجيين، الذين تحصنوا في قلعتهم هذه قبل أن يتخذوا من “أشير” عاصمة لهم ثم ينتقلوا في أواخر أيامهم إلى بجاية بالإضافة إلى صومعة المنصورة. ومن أسف أن جانبا كبيرا من منشآت بني عبدالواد بتلسمان وأغادير قد أصابه الوهن، لإهمال الصيانة من ناحية، ولتعاقب الزلازل المدمرة على هذه المناطق من ناحية أخرى حتى لم يبق من قلعة المنصورة الحصينة سوى بعض أجزاء من سورها الضخم وصومعة جامع هذه القلعة.

وتأثرت الدولة الزيانية في جهودها لإعمار تلسمان وأغادير وما حولها من مدن صغيرة بالتقاليد الأندلسية، وإلى أمراء هذه الدولة يرجع الفضل في مد نفوذ الفن الأندلسي إلى مناطق المغرب الأوسط، إلى جانب تأثر الموحدين الذين عمل الزيانيون في خدمتهم بعمارة الأندلس، فقد أدى اضطراب الأحوال في الأندلس إلى هجرة العديد من المعماريين الأندلسيين إلى مدن المغرب، حيث عملوا في خدمة الأمراء المحليين بها. وأخذت التقاليد الفنية لغرناطة والمغرب الأقصى تزحف إلى منشآت الزيانيين بغرب الجزائر، حتى يمكن القول بأن هذه المنشآت كانت صدى عميقا للطراز الأندلسي فعندما أنشأ الأمير أبو عثمان سعيد مسجد سيد أبي الحسن في تلمسان، وكان من أجمل مساجد هذه المدينة، جعله على طراز أندلسي أصيل، ولكن المسجد تخرب مع مرور الزمن، ثم حوله الفرنسيون إبان احتلالهم الجزائر إلى متحف وقد بقى منه سقفه الخشبي المزخرف الذي يعتبر من أجمل سقوف المساجد ذات الطراز الأندلسي المغربي، وكذلك محرابه الذي يظهر فيه بوضوح الاقتباس من محراب المسجد الجامع في قرطبة.

وقد زود مؤسس الدولة أبو يحيى بن زيان المسجد المرابطي الكبير في تلسمان، بواحدة من أجمل المآذن الأندلسية الطراز في المغرب، وشيد أيضا المسجد الجامع بأغادير على ذات النسق الأندلسي، ومما يستحق الانتباه أن إغارات الحفصيين والمرينيين لم تحل دون عناية هؤلاء الغزاة بأمور التشييد والبناء في تلسمان وما حولها.

فبعدما نجح أبو الحسن بن علي بن أبي سعيد المريني في الاستيلاء على تلسمان، واصل تزويد هذا الإقليم بالعمائر ذات الطراز الأندلسي المغربي، ومن أعماله الباهرة إنشاء المسجد المعروف بأبي مدين في بلدة العباد القريبة من تلمسان وأبو مدين شعيب بن الحسيب الأندلسي - توفى عام 1196م - من أجل الصوفية وأهل الزهد في المغرب الإسلامي، وقد ولد ودرس في إشبيلية ثم انتقل إلى فاس طلبا للعلم، وهناك مالت نفسه إلى الزهد، وبدأ رحلة طويلة من الحج والسياحة والعبادة، حتى توفى بقرية العباد قرب تلمسان وشيد أبو الحسن المريني روضة - مدفنا - لأبي مدين، وألحق به مسجدا صغيرا، وتعد الروضة والمسجد من أجمل مساجد المغرب على صغر مساحة المسجد، فصحنه يزدان بنافورة ماء في وسطه، ومحرابه منقول عن محراب مسجد قرطبة الجامع، ومئذنة الجامع التي أمر أبو الحسن بتشييدها في سنة 1339م، من أجمل المآذن المغربية ذات الطراز الأندلسي في مدن المغرب الأوسط.

ومن منشآت الدولة المرينية في تلمسان أيضا مسجد سيدي الحلوي، وهو أيضا زاهد أندلسي هاجر إلى المغرب، وأمر السلطان المريني أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي بتشييد هذا الجامع تخليدا لذكرى الحلوي، ومن أظهر ما يتميز به هذا المسجد، أن ظلة الصلاة به بها بوائك فريدة من نوعها تحمل سقوف المسجد، وتتألف هذه البوائك من أعمدة قصار تبرز من الأرض دون قواعد، وكأنها أعجاز نخل تحمل عقودا ضخمة عالية على هيئة حدوة الحصان وقد أعجب الأندلسيون وأهل المغرب بهذا الطراز من العقود وأسرفوا في استخدامه بعد أن أعطوه شكلا أندلسيا خالصا يجعله مدببا بعض الشيء، في حين كانت عقود حدوة الفرس ذات هيئة نصف دائرية في العمائر القديمة.

back to top