وفق تقرير منظمة «مراسلون بلا حدود»، الذي يصنف دول العالم سنوياً تصنيفاً تنازلياً حسب احترامها لحرية الإعلام، فإن أيسلندا تتصدر هذه الدول، كأولى دول العالم احتراماً للحريات الإعلامية، وتليها لوكسمبورغ، ثم النرويج. فهل تعرف اسم أي وسيلة إعلام تتبع إحدى هذه الدول الثلاث؟ بالطبع لا.

Ad

الأمر الأكثر إثارة أن الكويت، كعادتها دائماً، تصدرت الدول العربية في هذا التصنيف لجهة حرية الإعلام بها، إثر دراسة قامت بها المنظمة على مدى سنة، بدأت في سبتمبر 2007، وانتهت في الشهر نفسه من العام الجاري 2008، وقد احتلت المرتبة الـ 61 عالمياً، وتلاها لبنان في المرتبة الـ 67.

يبدو أن القناعة التي سادت، حتى تكرست شبه مسلم بها، عن ارتباط طردي بين الحريات الإعلامية في أي مجتمع وكفاءة المنظومة الإعلامية به وتفوقها في ميادين المنافسة، باتت في حاجة إلى مراجعة ضرورية؛ إذ تشير التقارير الحقوقية كلها والتصنيفات الإعلامية معظمها إلى هيمنة وسائل إعلام تتبع بلداناً لا تحظى بمراتب متقدمة في تصنيفات الحريات، فيما يبدو أن الدول التي تتصدر تلك التصنيفات تكتفي بمكانتها الحقوقية هذي، وتستبدلها بتفوقها المفترض في الصناعة الإعلامية.

الولايات المتحدة الأميركية التي تصدر عنها الأسوشيتد برس (أ ب)، كبرى وسائل الإعلام في العالم ومعها اثنتان من أهم الصحف العالمية («واشنطن بوست»، و«نيويورك تايمز»)، وإحدى أهم صحيفتين اقتصاديتين عالميتين («وول ستريت جورنال»)، وأهم قناة إخبارية عالمية («سي إن إن»)، وغيرها من وسائل إعلام قوية طبقت شهرتها الآفاق، تأتي في المرتبة الـ 38 في قائمة «مراسلون بلا حدود». والأنكى من ذلك أنها كانت تحتل المرتبة الـ 46 في السنة 2006- 2007، بسبب رئيس يتعلق باعتقال السلطات الأميركية مصور فضائية «الجزيرة» سامي الحاج لمدة ستة أعوام في معتقل غوانتانامو.

يحرف الأميركيون مقولة الكاتب الشهير مارك توين لتصبح «هناك قوتان تحملان النور إلى هذا العالم... الشمس في السماوات والأسوشيتد برس على الأرض»، كناية عن النفاذية الكبيرة التي باتت تمتع بها أكبر وكالة أنباء ومورد خدمات صحافية في العالم، وهي نفاذية ونفوذ اكتسبتهما الصناعة الإعلامية الأميركية، رغم تراجع الحريات الإعلامية هناك مقارنة بأوروبا، بل حتى بالجارة القريبة كندا.

وكذلك فرنسا عاصمة الحريات والنور تحتل المرتبة الـ 35، وهو أمر لم يحل بالطبع دون أن تتمتع وسائل إعلامها بقدرة ونفوذ هائلين، ليس فقط في الداخل الفرنسي، ولا في البلدان الفرانكفونية، ولكن في العالم أجمع.

يقول علماء الإعلام وباحثوه إن تفوق الصناعة الإعلامية يعتمد على عوامل خمسة رئيسة؛ أولها الـ Concept، أي الفكرة التي يحملها المشروع الإعلامي، ومدى فرادتها أو تلبيتها لاحتياجات السوق الذي تخدمه، وثانيها الـ Brand Name، أي الاسم التجاري الذي يخلقه المشروع الإعلامي لنفسه، ويعززه في السوق، ويربطه في أذهان الجمهور بالقيم الإيجابية وكفاءة الخدمة ووفائها للاحتياجات والتطلعات المختلفة. أما ثالث هذه العوامل فهو الـ Organisation، أي القدرة المؤسسية والتنظيم الجيد للمشروع، ورابعها الـ Services، أي الخدمات المكملة للصناعة؛ من قدرة تقنية بالنسبة إلى المشروعات الإلكترونية، إلى خدمات طباعة وأحبار وأنواع ورق وتوزيع وإعلان بالنسبة إلى الوسائل المطبوعة، وخامس تلك العوامل يتعلق بالـ Content، أي المحتوى.

ويظهر جلياً من استعراض تلك العوامل الخمسة أن الحرية السياسية والمجتمعية عموماً لا تتصل سوى بعنصر واحد منها؛ وهو عنصر المحتوى، وهو الأمر الذي يفسر نبوغ صناعات إعلامية ضخمة في بلدان تحل في مراتب متأخرة ضمن تصنيفات الحريات، وتصدر بلدان ذات تقييمات متدنية في هذه التصنيفات للمشهد الإعلامي سواء كان محلياً أو إقليمياً أو عالمياً.

فإذا عدنا إلى الحالة الكويتية تحديداً لعرفنا ما السبب وراء وصول عدد الصحف اليومية في هذا البلد قليل المساحة والسكان إلى 15 صحيفة يومية؛ إنه مناخ الحريات المنفتح نسبياً، والذي يعد الأفضل في المنطقة، وفقاً للتصنيفات الدولية، إضافة إلى توافر الأموال اللازمة للصناعة، وتوافر الدوافع السياسية والاجتماعية الرامية إلى تملك الصحف وإصدارها.

لكن لماذا لم تقد تلك الأموال والدوافع والحريات الصناعة الإعلامية الكويتية إلى وضع أفضل مما هي عليه الآن فيما يتعلق بتأثيرها عبر المحلي؛ أي الإقليمي أو حتى العالمي؟ الإجابة عن هذا السؤال تستلزم مراجعة عوامل تفوق الصناعة الخمسة السابق الإشارة إليها؛ ومن ذلك أن أياً من المشروعات الإعلامية الكويتية لم يصدر بـ Concept، أي مفهوم، عبر محلي، لكن كلها، أو معظمها في أفضل الأحوال، صدر بمفهوم محلي صرف، وأهداف ضيقة محددة سلفاً. وسبب آخر يكمن في أن الخدمات التي تكمل دوائر الصناعة الإعلامية الكويتية لم تستهدف أبداً إطلاق المشروع الإعلامي أو إيصاله إلى أبعد من حدود الكويت، وفي أحسن الأحوال، إلى الكويتيين في الخارج. وكذلك فلم يخدم المحتوى سوى اهتمامات الجمهور المحلي، ولم تركز القصص سوى على الأوضاع الداخلية.

اليوم يهيمن الكادران المصري واللبناني، والتنظيم والمال والفكر السعودي والقطري، والبنية التحتية الإماراتية على معظم صناعة الإعلام العربية الفاعلة والمؤثرة والعابرة للنفوذ، وهي كلها دول تحتل مراتب متأخرة في تصنيفات الحرية الإعلامية، أو على الأقل تلي الكويت دائماً في معظم تلك التصنيفات.

* كاتب مصري