يعتبر الفيلم التسجيلي أحد فنون السينما، إلى جانب الروائي أو التمثيلي وفيلم التحريك. تعود محدودية إقبال الجمهور في بلادنا عليه إلى عاملين أساسيين: أولهما بطء تطوره في السينما المصرية والعربية، وارتباطه منذ نشأته بأعمال الدعاية، سواء كانت لمشاريع أو مؤسسة ما، أو سياسية لنظم الحكم والحكام. أما العامل الآخر، فيعود إلى كون مشاهدته لم تدخل أبداً حتى الآن ضمن عادات هذا الجمهور أو ثقافة المشاهدة والتلقي إن جاز التعبير، فقد اقترنت السينما لديه، باكرا، بالاستمتاع بدراما الحكي أو القص أو الرواية (الفيلم الروائي)، مع أن للفيلم التسجيلي الحقيقي «دراما» و»حكاية» خاصة به، لكن على طريقته ومنطقه. فإذا تضافر عامل عدم الاعتياد، أو «تدريب العين والذهن» على لون معين، مع عامل النوعية التي لم تنضج في كثير من أعمالها بالقدر الكافي ولا تحقق متعة مماثلة لما يحققه الروائي، فإننا نكون إذن أمام عاملين خطيرين تسببا معاً، للأسف الشديد، في عزوف المشاهد المستمر عن السينما التسجيلية.

Ad

أبدى بعضنا دهشته عند حصول الفيلم التسجيلي الطويل للمخرج الأميركي مايكل مور حول «11 سبتمبر» على الجائزة الكبرى «السعفة الذهبية» في «كان» قبل أعوام، في سابقة لم تحدث سوى مرة واحدة عام 1958، لكن التفسير الأساسي لتربُّع فيلم تسجيلي على العرش الذي لا يعرف عادة إلا السينما الروائية، هو النهوض الشامل والنضج الفني الهائل الذي حظيت به السينما التسجيلية في العالم خصوصا في هذا العصر، اذ لم يكن الموقف السياسي الجذري الرافض لسياسات إدارة بوش هو الذي دفع فيلم «مور» إلى هذه المكانة فحسب، وإنما مستواه الفني والجمالي الرفيع أيضا. وخلال رصدنا علامات مهمة في مسيرة الفيلم التسجيلي المصري والعربي، نجد أن السينما التسجيلية لدينا عرفت مبدعين كباراً، وقدمت أفلاماً ممتازة، بين الفينة والأخرى، من دون أن يساعد المناخ الفني ونظم الإنتاج والتسويق في تحقيق نهضة شاملة لها، فضلاً عن عدم بذل المساعي الجادة حتى الآن ليصبح الفيلم التسجيلي والوثائقي ضمن عادات المشاهد لدينا ويحتوي على المتعة والفائدة في آن.

احتفلت دوائر في مصر، سينمائية وثقافية، خلال العام الفائت (2007) بمرور مائة عام على ولادة السينما المصرية، فهذه الجهات، وهي محقة تماماً في اعتقادنا، تعتبر أن تاريخ ولادة أية سينما هو تاريخ العرض الأول لأفلامها، سواء كانت روائية أو تسجيلية. ففي ذلك العام صوِّر أول فيلم مصري، وهو تسجيلي قصير، عن الخديو عباس حلمي الثاني في زيارته لمسجد «أبي العباس» في الإسكندرية. وبغض النظر عن الإختلاف في تاريخ الولادة بينهما، إلا أننا مع المساواة التامة ما بين الفيلم الروائي والتسجيلي بحيث لا تجعل الأخير بمثابة سينما من الدرجة الثانية، ولا تنظر إلى مخرج التسجيلي باعتباره يمارس مرحلة أولية تتبعها بالضرورة مرحلة ممارسة إخراج السينما الروائية، ينبغي أن تثير مثل هذه التصورات السخرية لسذاجتها ولأنها تناقض الحقائق والمسلمات البديهية. لا ننسى أبداً في السينما المصرية إبداعات مخرج كبير رائد مثل سعد نديم، الذي قدم أعمالاً قيمة بالغة التميز، وهو من المخرجين الذين لم يتجهوا الى صنع فيلم روائي، من أعماله التي تعد اليوم ضمن كلاسيكيات السينما التسجيلية المصرية فيلمه الطويل المرموق «عدوان على الوطن العربي». كذلك قدم المخرج سعيد مرزوق في المرحلة نفسها (النصف الثاني من الستينات في القرن الماضي) فيلمه القصير الجميل «طبول». ولا بد من أن نذكر بالتقدير والاحتفاء أعمال المخرجين الكبار أمثال صلاح التهامي وفؤاد التهامي وهاشم النحاس وعلي الغزولي وغيرهم.

اتجه بعض أبناء السينما التسجيلية الى العمل في السينما الروائية مثل سعيد مرزوق وخيري بشارة على الرغم من الإنجازات التي قدماها مثل «طبيب في الأرياف» و»طائر النورس» لخيري، وداود عبد السيد الذي قدم في العقد نفسه أفلاماً ما زالت تعيش في الذاكرة مثل «وصايا رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم». وتعد الأفلام التي قدمها المخرجون المصريون عن حرب رمضان/ أكتوبر في ذلك العقد أفضل ما قدمت السينما لدينا عن هذه المعركة المجيدة بما لا يقارن بما عرضته السينما الروائية حتى الآن. ومن الروائع في هذا المجال «أبطال من مصر» إخراج أحمد راشد، «جيوش الشمس» إخراج شادي عبد السلام، «صائد الدبابات» إخراج خيري بشارة.