تبدو مفارقة دالّة وجليّة للدارس والمراقب، أن تقوم السينما الأميركية على فكرة القتل، جاعلة منها مصدراً لإلهام كتّابها وأبطالها ومخرجيها، وأن تقوم هذه السينما الجبارة بترويج وتسويق وتزويق فعل القتل بوصفه المعادل الموضوعي الأهم لفعل الحياة، ليس من باب «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب»، ولكن من باب انتصار القتل على ما سواه من شؤون الحياة، لهذا يحق لبطل الفيلم الأميركي، رجلاً كان أم امرأة، في سبيل الوصول إلى اعتقال القاتل، أن يقتل العشرات، وأن يحرق ويدمر كل ما يعترض أو يقف في طريقه.

Ad

نعم، لقد عملت السينما الأميركية من خلال مسلسلات العنف المتوحشة وأفلام «الآكشن» المرعبة، على نشر وتعميم وتجميل صورة القتل والقاتل، جاعلة منها مادة فنية يومية مشوّقة ومقبولة ومُستساغة ومتاحة للجميع، بما في ذلك صغار السن، مما ترتب عليه تغذية روح الشر والعداء لدى أجيال من البشر، وانعكاس ذلك على ذائقتهم الفنية بشكل مباشر، وعلى موقفهم الإنساني من العنف ومن نفي وقتل الآخر بشكل غير مباشر.

إن الربح المادي كان ولايزال محركاً أساسياً في سوق السينما، وتجمهر طوابير المتفرجين أمام شباك التذاكر، حلم يدغدغ مخيلة كل شركة إنتاج، لذا راكمت السينما الأميركية لعقود من الزمن رصيدها في أفلام العنف والقتل، وتفنّنت شركاتها في إبداع مناظر القسوة والقتل والدم، مما جعل منها مادة فنية مطلوبة ورائجة لدى شرائح عريضة من الجمهور، وهذا بدوره ربّى ويُربّي ذائقة إنسانية سادية ومتوحشة وعنصرية، خصوصا أن أي صورة راكضة على شاشة السينما، قد تبقى مطبوعة في ذهن أي مشاهد، لتترجم لاحقاً عنفاً أعمى يطول الأقرب والأبعد.

إن إدراك القائمين على السينما الأميركية لسحر الرياضة، جعلهم يتخذون من بعض الألعاب الرياضية عنصراً مهماً في أفلامهم، بدءاً باختيار البطل المفتول العضلات، وانتهاءً بتقديم أبطال مختلف الألعاب الرياضية العنيفة، لكن هذا كله جاء ويجيء ضمن سياق ترويج مفهوم البطل والعنف والقتل، وبما يفرغ الألعاب الرياضية من روحها الأجمل، ويحولها إلى سباق للمهاترة والقتل.

لقد شهد قرابة 91 ألف متفرج في الاستاد الوطني في بكين، المسمى «عش الطيور»، مساء يوم الجمعة قبل الماضي، إضافة إلى نحو 4 مليارات مشاهد تحلقوا حول شاشات التلفزيون، الافتتاح الساحر والأسطوري لدورة الألعاب الأولمبية السادسة والعشرين، التي يشارك فيها 10.500 رياضي يمثلون 205 بلدان، ويتنافسون على 28 لعبة، لحصد 900 ميدالية، بينها 302 ميدالية ذهبية.

لقد سحرتني فقرات الافتتاح بدقة حركاتها وانسجام أدائها وقدرتها على ترجمة تاريخ ومعتقدات وقيم الشعب الصيني، وسحرني أكثر ما ينم عنه استعراض الفرق المشاركة، فأغلبية دول العالم ممثلة في ألعاب الدورة، ولقد دخل الرياضيون إلى «عش الطيور» تتقدمهم أعلام دولهم، وترتفع الابتسامات على وجوههم. شباب تجمعهم الرياضة، من دون النظر إلى العرق أو الديانة أو القومية أو اللون، لا شيء يحكم فوزهم بالذهب إلا تميّز أدائهم، وقدرتهم على تجاوز الآخر، وهم يخوضون منافسات أخوية شريفة، يجمعهم سمو الرياضة، ويسوقهم هدف رياضي نبيل ومشروع، بعيداً عن العنف والقتل والدم.