إن هذه الكارثة، كانت امتحاناً جديداً وعسيراً للعقل السياسي العربي بالذات. وكان مطلوباً من هذا العقل، أن يقول كلمته الواضحة والصريحة فيها.

Ad

-1-

غداً تحلُّ الذكرى السابعة من كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001. وفي هذه الذكرى يجدر بنا أن نعتبر أن النكبات الكبرى والنازلات فرصة جيدة ومجال كبير ومناسبة عظيمة، لكي تجلس الأمم مع أنفسها، وتحاسب وتنتقد ذاتها، وتتبين ماذا كسبت وماذا ربحت من تلك النكبات والنازلات. فكارثة 11 سبتمبر لم تكن كارثة أميركية خاصة بقدر ما كانت كارثة حلّت بالإنسانية كلها، وتأثر بها كل البشر في الشرق والغرب والشمال والجنوب. ولقد كانت كارثة 11 سبتمبر 2001 قبل سبع سنوات، مناسبة للأمة العربية والإسلامية، لكي تقف هذا الموقف النقدي الذاتي، ولكي تخرج من مثل هذه الكارثة بالعبر والخبر، كما يقول ابن خلدون، باعتبار أن الأمتين العربية والإسلامية كانتا العنصر الفعّال في هذه الكارثة الإنسانية الفظيعة، وأنهما كانتا الفاعل والعامل. فقد كان حال اليابان في عام 1942 عندما حصلت كارثة بيرل هاربر كحالنا الآن، غرور واستكبار وتعطيل للعقل واستسلام للعواطف. ولكن عندما نالت جزاءها في 1945، حين أُلقيت عليها القنبلة الذرية، استيقظت من سباتها، وعادت إلى صوابها، وراحت تحاسب نفسها، ونجحت في نقدها لذاتها، فتقدمت هذا التقدم الذي نشهده الآن.

-2-

إن كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001، لم تكن كارثة أميركية بقدر ما كانت كارثة إنسانية عالمية «مُعولمة» شاملة وعامة، بالمعنى الحقيقي والواقعي، وليس بالمعنى المجازي.

فضحايا هذه الكارثة لم يكونوا من الأميركيين فقط، ولم يكونوا من الأوروبيين فقط، ولم يكونوا من المسلمين فقط، ولم يكونوا من المسيحيين فقط، ولم يكونوا بيضاً فقط، بل كانوا من كل ديانات وألوان وأجناس الأرض التي كانت تضمهم نيويورك كمدينة عالمية، وليست كمدينة أميركية فقط. وكان من بين ضحايا هذه الكارثة مسلمون من بنغلادش، ومن الباكستان، ومن ماليزيا، ومن إندونيسيا، ومن تركيا، ومن مصر، ومن لبنان. وكان من بين هذه الضحايا مسيحيون من الشمال: من أميركا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والدنمارك، وبلجيكا، وألمانيا، والسويد، وسويسرا، وإسبانيا، وايرلندا، وكندا. ومن الجنوب: البرازيل، والبرتغال، وتشيلي، وكولومبيا، والمكسيك، والسلفـادور، وفنـزويلا، وأورغواي. وكان من بين الضحايا بوذيون من اليابان، والصين، وكوريا، وتايوان، والفلبين. وكان من بين الضحايا بيض، وسود، وحمر، وصفر.

إذن، فهذه الكارثة كانت ضد الإنسانية وقيمها جمعاء، ولم تكن ضد القيم الأميركية فقط. وهذا هو السر وراء اختيار برجي نيويورك لتدميرهما.

-3-

وهذه الكارثة دليل واضح، على أن الإنسان في الشرق العربي بالذات قد فقد القدرة على الحوار، وفقد القدرة على الكلام والغضب والمعارضة، وفقد كذلك القدرة على التقدم الحضاري، ولم يكن أمامه من فعل يقوم به غير إنزال الكوارث بالآخرين.

يقول عالم النفس الألماني الفلسطيني الأصل جهاد مرزوية، كما نقل عنه الكاتب الجزائري حميد زناز في بحثه «المسلم ذلك الفرد المقهور»: «إن التراتبية الصارمة التي تطبع العائلة العربية، تخنق أنفاس الشبان والشابات، وتحرمهم من التعبير عن غضبهم وتفريغه. وهذا يدفع بهؤلاء المقموعين إلى كبت حنقهم، والانكفاء على ذواتهم. وبما أن الانتحار مُحرّم في الإسلام، فإنهم يسعدون حينما تسنح لهم، في يوم من الأيام، إمكانية قذف ذاك الغضب المتراكم خارج ذواتهم بتوجيهه ضد الآخر. وهكذا يحولون الممنوع إلى فعل بطولي، فينتحرون ليقتلوا».

ويتساءل الباحث الجزائري، وأستاذ الفلسفة، حميد زناز: «ألا يكون سقوطهم في حفرة العمل الانتحاري محاولة غير معلنة للبحث عن موت يعبرون به عن حقدهم الدفين على اعتقالهم الثقافي؟

لا يتمدن مجتمع يقمع الفرد، ويرفض التساؤل عن نفسه، ويحرم فنانيه ومفكريه من الحق في إثارة الشك. ولا يزدهر، مادام لا يجرؤ على السخرية من ذاته، ومادام يحارب أبسط التصرفات التي لا تتوافق مع تصوراته».

-4-

إن هذه الكارثة، كانت كارثة فظيعة ومروّعة وشنيعة، وهي بمنزلة اختبار جديد للعقل الديني الإسلامي. والجدير بالاهتمام هو أن نعرف كيف فكَّر العقل العربي والإسلامي بهذه الكارثة ونتائجها، وكيف حللها، وهل استفاد منها أم لا؟ كذلك، فإن هذه الكارثة، كانت امتحاناً جديداً وعسيراً للعقل السياسي العربي بالذات. وكان مطلوباً من هذا العقل، أن يقول كلمته الواضحة والصريحة فيها. فهل استطاع العقل العربي بعد مضي نصف قرن على «عصر التنوير» العربي، الذي ابتدأ في مطلع القرن العشرين أن يُغيّر من بياناته الخطابية والإنشائية والعاطفية المتعصبة وانتصاراته البلاغية، ويتخلّى عن التعالي والمكابرة والنرجسية، كما فعل اليابانيون والكوريون والألمان، ويحتكم إلى الواقعية والمتغيرات الدولية الجديدة، ولا ينظر إلى الكوارث والأحداث وكأنه يعيش وحده في هذا العالم، دون أي اعتبار للآخر؟

-5-

إن العقل العربي الذي عالج وتصدّى لهذه الكارثة، هو العقل العربي نفسه الذي فشل في المواجهة مع الغرب على مدار القرن العشرين، والذي خاض عدة حروب مع إسرائيل خسرها كلها تقريباً. وهو العقل العربي نفسه الذي فشل فشلاً ذريعاً في مسألة التحديث والتنمية وإقامة دعائم الدولة القوية العلمانية والعلمية والعقلانية. وهو العقل العربي نفسه الذي لم يُحقق قدراً يُذكر من الديمقراطية بعد مضي ما يقارب القرن من الزمان، منذ أن رحل عن أرضه المستعمرون العثمانيون. وهو العقل العربي نفسه الذي صنع الحكّام المستبدين، والذين يرى الغرب أنهم أفضل بكثير من حكام اللحى والعمائم (طالبان) على حد تعبير محمد رصاص، في مقاله «11 أيلول فصاعداً، المحطة الثالثة للحماقة السياسية العربية»، «النهار، 15/10/2001»، وأرحم منهم وأكثر تفهماً وأكثر عقلانية، بحيث لا يصل تحريم المنكرات في مجتمعاتهم إلى عشرين منكَراً تافهاً، كما أصبحت في عهد «طالبان» مثلاً.

لقد تغيّر العالم، وتغيّر عقل العالم بعد هذه الكارثة، ولم يتغيّر العقل العربي. فقد ظل العقل العربي محافظاً على ثوابته «المكينة» السابقة بعد هذه الكارثة، والتي تتلخص في:

1- عدم الفصل بين النقمة على الحكومات والانتقام من الشعوب.

2- اعتبار النقمة على الحكومات من قبل الغرب انتقاماً من الشعوب.

3- المناداة بقوة عسكرية عربية/إسلامية بديلة للقيام بفضِّ المنازعات الإقليمية بدلاً من الغرب.

4- الإيمان بوجود صراع حقيقي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

5- الاعتقاد بأن الغرب يسعى جاداً إلى هدم الإسلام، وعلينا جميعاً الوقوف بوجه الغرب للحيلولة دون ذلك.

* كاتب أردني