بين إمبراطوريتين
من سوء حظ الولايات المتحدة أن كان على رأسها، لحظة أوجها الإمبراطوري، رجل مثل جورج بوش الابن، وأن القرن الحادي والعشرين لن يكون أميركيا كما كان متوقعا. عندما بلغت الولايات المتحدة أوج سطوتها عقب الحرب الباردة، لم يجد المحللون والمؤرخون من سابقة يقيسونها عليها، وإن حسب تقريبٍ لا يطمح إلى مماثلة، غير تلك المتمثلة في الإمبراطورية الرومانية. علة ذلك التشبيه أن الإمبراطورية تلك، وإن لم تكن الوحيدة في تاريخ العالم التي امتدت شاسعة الأطراف فبلغت أقاصي المعمورة، انفردت بخصوصية لم تتوافر في سواها من قبلها أو من بعدها حتى «اللحظة الأميركية»، وهي أنها الإمبراطورية الوحيدة التي استوت دولة-عالما.
صحيح أن غزوات الإسكندر المقدوني ربما كانت أكثر إثارة وأكثر مدعاة للدهشة أو للإعجاب، وكذلك الفتوحات الإسلامية، ولكن روما هي التي حققت أمرا غير مسبوق وظل فريداً إلى أمد طويل، بأن اجترحت فضاء إمبراطوريا يكاد يتطابق مع العالم (المعروف في ذلك الزمن)، فلم يبق خارجا عنه غير شعوب كانت في حالةِ بدائيةٍ تاريخية أو دون القدرة على الانتظام في هيئات سياسية ومدنية، شأن «البرابرة» من قبائل الجرمان شمالا أو الصقالبة شرقا، ثم إن روما هي التي قامت مركزا لذلك الفضاء الإمبراطوري تديره على نحو مُستدام، بواسطة بنية تحتية أنشأتها ومؤسسات بعثتها.لذلك، كانت تلك السابقة-النموذج، مثالا يُقاس عليه، عندما آلت السطوة إلى الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، فاستأثرت بأسبابها (السطوة) وانفردت بها، قوة شاملة إن جازت العبارة، اقتصادية وعسكرية وثقافية. والحق أن تشبّه الولايات المتحدة بروما أو تشبيهها بها، ما كانا يخلوان من تواضع، إذ إن العالم الذي سيطرت عليه «روما الجديدة» أوسع بما لا يقاس من ذلك الذي عرفته «نظيرتها» العتيقة، كما أن القوة التي اجتمعت بين يدي تلك تفوق بنسب فلكية تلك التي حازت عليها هذه الأخيرة، لكن المراد بذيْنك التشبه والتشبيه لم يكن يعبأ بالجانب الكمي (وإن انقلب ذلك الكمّ نوعا) ولكنه مهتم بطبيعة السيطرة الكونية التي كانت من نصيب كل من المثال الروماني العتيق وظله الأميركي المحدث.قد لا يتعين الإسراف في حمل مثل هذه «التوافقات» على محمل الجد، إذ هي قد لا تعدو أن تكون مسعى من قبيل إيديولوجي، أي لا يستند إلى وقائع، يرمي إلى افتعال سابقة تاريخية، التماساً لشرعية أو من باب الاطمئنان إلى منوال سابق. أما إن فعلنا، أي إن أخذنا الأمر على محمل الجد، ومضينا في المقارنة، فإن ما يلوح جليّا أن نتيجة تلك المقارنة ليس لمصلحة الولايات المتحدة، وأن هذه الأخيرة أخفقت في أن تكون دولة-عالما، أسوة بأنموذجها المعلن، سواء كانت المحاكاة، في هذا الصدد، واعية أو غير واعية. قد يتبين المرء طورين في تعاطي الولايات المتحدة مع ما آل إليها من انفرادٍ بالسطوة على العالم من جراء الانهيار السوفييتي: طور جسده عهد بيل كلينتون واتسم بقدر من الحكمة تمثلت في الاكتفاء بدور قيادة العالم، وذلك الذي مثله عهد جورج بوش الابن وهذا سعى إلى حكم العالم والسيطرة عليه سيطرة مباشرة. أما عهد جورج بوش الأب، فكان انتقاليّا، غير محدد المعالم بصفته تلك، وإن كان أميل، على الأرجح، إلى تحبيذ اضطلاع بلده بدور قيادة العالم.وهكذا، فإن أميركا «الرومانية» هي أميركا البوشية، أميركا جورج بوش الابن، فهذا الأخير هو الذي سعى على نحو واع إلى جعل دولة بلاده دولة مسيطرة على مقاليد العالم، مستندا في ذلك إلى إيديولوجيا رثة، لفقها «المحافظون الجدد» من أفكار زعمت انتسابا إلى الفيلسوف ليو شتراوس ومن مصادر أخرى متعددة ومتنافرة، وإلى سياسة جعلت الانفراد محورها وأعلنت ذلك، ابتزازا بالقوة سافرا صريحا، فكان أن ابتدعت إدارة بوش مبدأ الحروب الاستباقية، وكان أن استخفت بالهيئات الناظمة للحياة الدولية أو التي تمثل لها مرجعية، شأن الأمم المتحدة التي ناصبتها عداء لا لبس فيه، وكان أن استأثرت بصلاحية إعلان الحرب دون سواها، فادعت بذلك الاستئثار بالسيادة على الصعيد الكوني، بأن أعلنت نفسها، ضمنا، الدولة الوحيدة الناجزة السيادة، وكل سيادة عدا سيادتها منقوصة أو قابلة للانتقاص، بل إنها اخترعت «برابرتها» هي بدورها، حيّزهم ضرب من سديم يقع خارج النظام العالمي، وهو بطبيعة الحال أميركي، فهم إرهابيون أو دول مارقة أو ثقافات وأديان توصف بالتوحش والهمجية، وهم لذلك في ما دون السياسة والمدنية.لكن كل ذلك فشل فشلا بينا، مؤشراته كثيرة بادية للعيان، وأخفقت الولايات المتحدة في أن تكون روما جديدة، دولةً-عالما، إخفاقا لا يتسع المجال هنا لسبر أسبابه.يبقى أنه ربما كان من سوء حظ الولايات المتحدة أن كان على رأسها، لحظة أوجها الإمبراطوري، رجل مثل جورج بوش الابن، ويبقى أيضا أن القرن الحادي والعشرين لن يكون أميركيا، على العكس من توقعات تعود إلى زمن ظافريةٍ ولّت وأضحت «لغوا ساقطا ونسيا منسيا» حسب تعبير للجاحظ.* كاتب تونسي