أم المعارك الانتخابية في صيدا
كل شيء كان هادئاً على الجبهة الجنوبية في لبنان إلى أن أعلن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة ترشحه عن المقعد السني الثاني في عاصمة الجنوب صيدا، إن هذا الترشح لم يشكل مفاجأة بقدر ما شكل دهشة واستغراباً لدى الجميع، وبصورة خاصة لدى الطبقة المتوسطة والبرجوازية الصيداوية... تلك الطبقة التي تحرص على إبقاء مدينتها جسراً مفتوحاً مع مدن وقرى الجنوب، بعيدة عن التلاعب بأمنها العام.لقد ترك ترشح فؤاد السنيورة عن المقعد السني في صيدا علامات استفهام كبرى لم يستطع الوسط السياسي في لبنان أن يحلّ ألغازها: لماذا ترشح؟ ومن يقف وراء دفعه إلى الترشح؟ وما نسبة حظوظه في النجاح مع رفيقته الوزيرة بهية الحريري؟ وهل سيكون عبئاً عليها؟
الواضح إلى الآن أن ترشح السنيورة لم يخلط الأوراق السياسية فحسب، بل وضع عاصمة الجنوب اللبناني صيدا في دائرة الخطر الأمني بعد أن كانت تنعم بالهدوء والطمأنينة والاستقرار السياسي. وبهذا استحقت صيدا، بعد الترشح، لقب «أم المعارك» الانتخابية في لبنان. إن دائرة صيدا وجوارها وربما الجنوب بأكمله بات مزروعاً بالقنابل الموقوتة بفضل هذا الترشح، فلماذا كل هذا يا دولة الرئيس؟كيف ينظرون إلى ترشح السنيورة؟ هناك تحليلات مختلفة بعضها سطحي وبعضها ينبع من العاطفة، سلبية كانت أم إيجابية، والبعض الآخر يدخل في صميم الكلام الاستراتيجي.• المحايدون رأوا أن ترشح السنيورة أمر عادي. فالرجل لا ينقصه جاه ولا مال فلديه الكثير الكثير منهما. والنيابة– في حال فوزه– قد تأخذ من رصيده الذي جمعه بعرق أعصابه التي ظهر أنها حديدية. كما ثبت بعد عدوان 2006 بأنه مقاتل سياسي، عنيد، مراوغ، غير قابل لتقديم التنازلات إلى خصومه. ولو لم يكن يملك هذا القدر من قوة الأعصاب لما استطاع أن يبقى في سراي الحكم طيلة هذه الفترة الطويلة. ويعترف هؤلاء بأن السنيورة قد استملك وعن جدارة عدم محبة الناس له على مختلف انتماءاتهم، بل إنه تخطى حدود المثل القائل: «نصف الناس أعداءُ لمن وُلِيَ الأحكام هذا إن عَدَلْ». ويتساءل هؤلاء: لماذا يغامر السنيورة بأرباحه كلها، وهو المعروف بأنه دقيق الحسابات إلى درجة البخل الشديد على نفسه وعلى الناس. وتنتهي نظرة هؤلاء إلى رسم علامات الحيرة والتعجّب.• البعض الآخر، على قلة عدده، الذي يكنّ عاطفة ما لفؤاد السنيورة يعطي تفسيرات لا علاقة للعقل أو التعقّل بها. يقول إن الرجل أثبت بما لا يقبل الجدل أو الشك أنه رجل دولة من طراز نادر تخطى حدود لبنان فأصبح نجماً إقليمياً وعربياً. فلماذا يغيب عن المسرح السياسي. إن مصلحة لبنان هي في عودة السنيورة إلى سراي الحكم «متأبطاً» النيابة وبذلك يجمع المجد من طرفيه: الشرعية الشعبية، والشرعية الدولية التي «انتخبته» قبل أن يتقدم الناخب الصيداوي إلى صناديق الاقتراع، بالإضافة إلى الشرعية العربية التي منحته بأكثريتها ثقتها الكاملة.هذا البعض يغمز من قناة سعد الحريري الذي لا يريد للسنيورة فوزاً نيابياً حتى لا يزاحمه على عرش وحدانية زعامته. وفي هذا القول جزء من الحقيقة، فالشيخ سعد، في مجالسه الخاصة غير السياسية وهي كثيرة، يتكلم عن السنيورة بأسلوب التجريح الذي لا يسيل الدماء. ولو تـُرِك الأمر له لقال في السنيورة ما لم يقله مالك في الخمر. لكن هناك «فرامل» عربية وغربية تمنع سعد الحريري من أن يطلق العنان لعاطفته في «مديح» التلميذ الذي تفوق على أستاذه وولي نعمته.قيل، والعهدة على القائل، إن سعد الحريري قال في وقت لم يمر عليه الزمن رداً على سؤال واحد من مجالسيه الليليين: لو ترشح السنيورة منفرداً فلن ينال أكثر من (271) صوتاً. ثم استدرك بسرعة: لا ... (216) فقط لا غير. فإذا كانت هذه الرواية حقيقية– وهي قد تكون كذلك– فلماذا لا يخرج سعد على الناس شاهراً لسانه ضد السنيورة؟ بل لماذا لا تخرج عمته الحاجة النائب بهية وهي التي تملك رصيداً شعبياً لا بأس به في صيدا لتدافع عن حظها في تولي رئاسة وزارة ما بعد الانتخاب؟ قد يحصل ذلك في إطار اللعبة الانتخابية عندما توعز بهية– تحت الطاولة طبعاً– إلى أنصارها بانتخاب ممثل الجمعيات الإسلامية الشيخ عمار المنقسمة على نفسها إلى أربع فئات، والذي يتبع قلباً وقالباً نهج تيار المستقبل. والحاجة بهية، في سعيها إلى تحقيق حلم تولي رئاسة الوزارة الجديدة، تعمل على أساس أن تنال أكبر نسبة رقمية من ناخبي دائرة صيدا لتركز زعامتها. وللتذكير فإن التقسيم الطائفي والمذهبي البغيض يعطي صيدا نائبين سنيين، كذلك فإن الاشتراك بلائحة واحدة لا يعني بالضرورة التضامن الكامل بين مرشحيها. وتجارب الماضي، منذ أن كانت الانتخابات، تزخر برفيق درب طعن رفيقه من الخلف يوم الاقتراع. وهذا الفعل الشنيع يسمونه في لبنان «لعبة ديمقراطية». • أما المعارضة فإن نظرتها إلى ترشيح السنيورة تحمل طابعاً استراتيجياً لا علاقة له بالشخص، بل يؤشر إلى وجود نوايا عدوانية جديدة ضدّ المقاومة، وهذه النوايا سيبدأ تنفيذ مرحلتها الاولى بإقفال صيدا انتخابياً لمصلحة الموالاة. وقد أطلقت أوساط «حزب الله» على ترشح السنيورة اسم «الاستراتيجية العدوانية الجديدة». ويشرح هؤلاء وجهة نظرهم فيقولون إن نجاح السنيورة مع رفيقة دربه الحاجة بهية يعني– استراتيجياً– إقفال باب الجنوب على المقاومة وأنصارها تمهيداً للتسلل إلى مناطق نفوذها في العمق. ويذهب «أحدهم» إلى أبعد من ذلك فيقول إن ترشح السنيورة وإمكانات نجاحه أشبه ما يكون باحتلال «عدو» غرفة الاستقبال التي لا تفصلها عن غرفة النوم سوى أمتار قليلة. وهذا أمر يمثل خطراً في المدى القريب والمتوسط على الوجود المقاوم في منطقة تمثل حصن المقاومة ودرعها الواقي. «لذلك علينا أن نقاومه بكل ما لدينا من أسلحة. إنه خط أحمر عريض ممنوع اجتيازه تماماً مثل الخط الأزرق الفاصل بين حدودنا الجنوبية وبين الصهاينة، بل ربما يكون أشدّ خطراً لأنه يقع داخل البيت». وهكذا، فإن نظرة «حزب الله» وحلفائه إلى ترشح السنيورة تأخذ أبعاداً استراتيجية. ويزداد القلق عند قيادة الحزب عندما تعلم أن وراء الترشح قوى عربية وقوى دولية. ففي الأسبوع الماضي، وقبل 48 ساعة من إعلان السنيورة، التقت سفيرة أميركا في لبنان بعض أصدقائها اللبنانيين في مطعم صغير في منطقة «المونو» القريبة من ساحة الشهداء وقالت لمجالسيها «إن السنيورة سيأخذ مقعد أسامة سعد في صيدا، وإن النجاح في السيطرة على صيدا انتخابياً سيكون عاملاً أساسياً في معركتنا المقبلة مع حزب الله وحلفائه». وهكذا فإن السفيرة سيسون لم تعلن ترشح السنيورة قبل أن يعلنه هو فحسب بل أعلنت نجاحه قبل أن يتقدم الصيداويون إلى صناديق الاقتراع.هذه المعطيات إذا ما أضيفت إلى عوامل أخرى كثيرة سوف تجعل من صيدا «أم المعارك» الانتخابية في لبنان أمنياً أولاً وسياسياً ثانياً. وإذا ما أضيف إلى ذلك الوضع القابل للانفجار نتيجة مزاج العامل الديمغرافي الصيداوي فإننا نخلص إلى حقيقة سوداء وهي أن السلطات الأمنية الرسمية سيكون من الصعب عليها السيطرة على الوضع في حال تفجره أو تفجيره. إن الذاكرة اللبنانية في هذا المجال لاتزال طرية بالنسبة إلى صيدا التي اغتيل فيها معروف سعد، والد أسامة في العام 1975، وكانت الشرارة التي حرقت لبنان من أقصاه إلى أقصاه.غير أن الصورة قد لا تكون بهذا الاسوداد، فالمساعي لإقناع السنيورة بالعودة عن ترشحه لاتزال تتنفس بل تركل أيضاً؛ لكن عامل الوقت يعمل ضدها، خصوصا أن الحديث عن استخدام المال الانتخابي قد بلغ ذروته، حيث وصلت أخباره المؤكدة إلى القصر الجمهوري. وفي صيدا، كما في عدد من الأقضية اللبنانية، هناك فقر مدقع لا يحتمل. والذين أنفقوا مئات البلايين من الدولارات على حروب إقليمية عبثية لن يقف في طريقهم إنفاق ثمن فصيل من الدبابات أو سرب صغير من الطائرات إذا كان ذلك يؤمن لهم ربح المعركة الكبرى، أما البلد وأبناء البلد وأرزاق أهل البلد فهم في رعاية الله. * كاتب لبناني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء