في العلمانية والديمقراطية والدولة (2 - 2)
لكن هل تتوافق خطة تقوية الدولة مع الديمقراطية؟ في فهمها الدارج في بلداننا، الديمقراطية شيء أقرب إلى إخضاع الدولة للمجتمع أو انتظام الدولة كمرآة عاكسة للمجتمع. هذا ضال وسيئ جدا، يرد الديمقراطية إلى التمثيل السلبي للمجتمع. والتمثيل سيعني تشكل الدولة على صورة المجتمع. ولما كان هذا متعددا أهليا ومنقسما فسوف تتشكل الدولة متعددة ومنقسمة، كما هو الحال في لبنان. وهنا ينتقل منطق المجتمع الأهلي إلى الدولة، ومنطق السياسة التعددي والاختلافي والنزاعي إلى مقام السيادة الواحد والموحد تعريفا. وبدلا من أن تتمكن الدولة من معالجة وحل المنازعات الاجتماعية، تغدو هي ذاتها موضع تجاذب ونزاع، يفضيان إلى شللها.
والحال أن جذع الديمقراطية هو السيادة الشعبية، والشعب ليس «المجتمع» ولا «السكان» ولا مجموع العصبيات، بل هو الجماعة الموحدة قانونيا وسياسيا، والمكونة من مواطنين متساوين. ولكي يكون الشعب سيدا يتعين «صنعه» أولا، أو بلغة أخرى «بناء الأمة». والشيء الذي نحتاج إلى إدراكه، الديمقراطيين قبل الجميع، هو أن الشعب «يصنع»، وليس معطى طبيعيا أو خاما. وهو يصنع بأدوات السياسة والقانون والاقتصاد والتعليم، لكن أيضا بأدوات القوة. ولصنع الشعب اسم معروف: الجمهورية. ووجه الجمهورية الخارجي، إن جاز التعبير، هو الفكرة القومية التي توحد وتدمج، والمقترنة تاريخيا مع الدولة القوية. لن ندخل في نقاش حول مبدأي الجمهورية والقومية. حسبنا أن نقول إن تقوية الدولة تتعارض مع الديمقراطية بالمفهوم التمثيلي السلبي للديمقراطي، لكنها شرط للديمقراطية حين تعني هذه صنع الشعب أو الجمهورية. وبهذا المعنى، أي عبر صنع الشعب (الجمهورية) وتقوية الدولة (القومية)، تسير العلمانية والديمقراطية معا. وبهذا المعنى فقط تعني دولة أكثر علمانية أكثر. ويتيح لنا هذا التحليل أن ندرك أيضا أن العلمانية من إنجازات المرحلة القومية التي تتجاوز الانتماءات الدينية لمصلحة انتماءات أحدث عابرة للأديان. وهما معا (القومية والعلمانية) مقترنتان بالدولة القوية، إن لم نقل بعبادة الدولة. ولا تتأسس ديمقراطية أكثر إلا على دولة أكثر (مقر حصري للسيادة) وعلمانية أكثر (هوية جديدة لا دينية)، أي على القومية (سنخصص تناولا مستقلا لمسألة القومية: عربية أو محلية..). ولا يتعارض هذا التصور مع النموذج اللبناني لدولة مرآة للمجتمع الأهلي، بل كذلك مع النموذج السوري لدولة مردودة إلى سلطة جهازية. والمجتمعان السوري واللبناني متماثلان من حيث إنهما غير متماسكين ذاتيا على حد سواء، لكن أحدهما غير متماسك والدولة أضعف من أن تمسكه، والثاني غير متماسك بدوره لكنه ممسوك من خارجه بسلطة قسرية، تمر إعادة إنتاجها حتما بإعادة إنتاج لا تماسكه الذاتي. في سورية الدولة في صيغة السلطة الجهازية المتمركزة حول ذاتها لا تعمل من أجل الاندماج الوطني (أو «القومي»)، بقدر ما هي ترهن استمرارها بضعف هذا الاندماج الذي يتيح لها مساحة مناورة واسعة وتخويف قطاعات من المجتمع من قطاعات أخرى. ودون اندماج وتكون هوية وطنية فوق دينية (سورية أو عربية) تبقى العلمانية إيديولوجية بلا سند «قومي». في لبنان الأمر لا يختلف جوهريا: إعادة إنتاج النظام السياسي تمر بإعادة إنتاج الانقسام الأهلي وتثبيته. لا هوية فوق دينية، ولا علمانية تاليا. ولا ديمقراطية إلا في صيغة «توافقية» تلغي الشعب اللبناني. لكن ثمة فرق بين النموذجين. في لبنان ينتقل منطق السياسة التنازعي والتعددي، كما قلنا، إلى مجال السيادة الواحدي تعريفا. أي يجري تطييف الدولة بدل أن تتولى الدولة نزع الطائفية من المجتمع. في سورية بالعكس، ينقل منطق السيادة الواحدي إلى المجتمع الأهلي، فينكر التعدد حتى في المجتمع، ويعتبر أي اختلاف سياسي خيانة وطنية، وأي معارضة للنظام عدوانا على الوطن. حالة الطوارئ المعمرة في سورية تتكفل بتعميم منطق السيادة العليا على الحياة الاحتماعية والسياسية للسكان في سورية، ما يفضي إلى نزوع سيادتهم واستقلالهم. في سورية، إذن، المشكلة انفلات الدولة من السيطرة الاجتماعية وانقلابها إلى سلطة مطلقة. في لبنان، بالعكس، المشكلة ضعف الدولة واكتساح الطائفية لها بالذات. غير أن الطور الراهن لتطور جدلية الدولة والمجتمع في البلدين يعرض تقابلا مثيرا. في سورية السلطة المطلقة تطور غريزة بقاء نامية تدفعها إلى التعايش مع التعدد الاجتماعي في صيغته الأهلية (الدينية والمذهبية والإثنية) لا في صيغته المدنية الحاملة للتعدد السياسي الخطر على بقائها. في لبنان أفضى تطييف المجال العام وضعف الدولة إلى ظهور احتمال تضمره الصيغة الطائفية: ظهور طائفة أقوى من الدولة عسكريا وقادرة على احتواء الدولة و«احتضانها». بعبارة أخرى، يقود التمركز المفرط حول السلطة (لا حول الأمة أو البناء القومي) في سورية إلى التطييف العام أو المللية، فيما يقود تطييف النظام السياسي في لبنان إلى إنتاج «دولة داخل الدولة» أقوى من الدولة، دون أن تكون قومية أو حاملة لمشروع عام.ما نريد الخلوص إليه من هذا الاستطراد هو إظهار التعارض بين تقوية الدولة ونموذج الضعف اللبناني كما مع نموذج «القوة» السوري. وكذلك القول إن النموذجين متعارضان على حد سواء مع البناء الوطني (أو «القومي») العلماني من تلقاء نفسه لكونه يطور هوية فوق دينية. استئناف مسار العلمنة في البلدان العربية يمر، إذا صح تحليلنا، بإحياء معنيي الجمهورية والقومية لا بدفنهما، على أن نفهمهما، تكرارا، كوجهين داخلي وخارجي لصنع الشعب انطلاقا من مواد أهلية، دينية وإثنية ومذهبية. والديمقراطية؟ تتناسب فرصها طردا مع الاندماج الوطني (تكون الشعب)، وعكسا مع تدنيه. دون اندماج ربما تتاح للمجتمع حريات عالية كما هو الحال في لبنان، لكن الدولة تبقى معرضة لأعطاب البيئة الإقليمية والدولية والانهيار تحت تأثيرها بين حين وآخر. أو يتاح لطاقم الحكم هامش مناورة واسع يمكنه من الاستبداد بالسلطة وفقا للنموذج السوري. يبقى السؤال عن الآليات المحتملة لبناء دولة قومية قوية، توحد المجتمع وتحتكر السيادة، متروكا لتناول مستقل.*كاتب سوري