«أثر الفراشة لا يُرى»

Ad

حين تنشر هذه المقالة ستكون على الأقل عشرات المقالات قد سطرت عن الشاعر محمود درويش الذي رحل تاركا خلفه جدلا أعتى من أثر الفراشة بين مؤيديه ومعارضيه. سأحاول هنا تجاوز الكلمات التأبينية المجانية والتي أقف دائما عاجزا أمامها. وسأحاول تذكر شاعرنا الجميل حيا وميتا بشيء مختلف. عنوان هذه المقالة هو عنوان آخر أعمال الشاعر وترجمته الى الانكليزية موضوع آخر له علاقة مباشرة بما ذهب اليه الشاعر الذي كان يدرك أنه ترك ما يستطيع من أثر وان وصفه بأثر الفراشة.

«أثر الفراشة» مصطلح وضعه «ادوارد لورينز» بناء على نظرية الفوضي الرياضية، يشير المصطلح الى امكانية أن تعمل أجنحة الفراشة تغييرا طفيفا في طبقات الجو قد يؤدي في المحصلة النهائية الى تغيير مسار إعصار ما. وربما حدوث إعصار ما فى أي مكان من الكون. أثر الفراشة، تحت هذا المفهوم، هو تغيير الوضع الراكد لحالة ما لتتلو ذلك سلسلة من التغييرات الأخرى.

البحث في تبني أثر الفراشة قصصيا وروائيا سينمائيا يطول آخرها كان فيلما يحمل نفس العنوان للمخرجين «اريك برس» و«ج. جرابر» عام 2004.

لا أريد أن أجزم هنا دون دليل أن درويش كان يعي المصطلح وأجاد استخدامه بحرفته المعهودة، ولكني سأفترض أنه يعي المصطلح وذلك حق مشروع. درويش كان يدرك أنه شاعر قبل كل شيء وأن محاولاته في التغيير من خلال اقحام نفسه في السياسة لن تجدي نفعا حتى وإن مكنه ياسر عرفات من كتابة بيان الاستقلال الفلسطيني عام 1988. لذا جرد نفسه، أو جردوه لا فرق، من السياسي وخيرا فعل أو فعلوا، ليعود شاعرا فقط. الشعر والشعر فقط هو سلاح درويش والشعر والشعر فقط هو سبب حبنا له ولو كان درويش رجلا سياسيا لرحل كما يرحل أي سياسي كل يوم وبقي في ذاكرتنا خلافنا أو اتفاقنا السياسي معه. أضف الى ذلك أنه لن يستطيع أن يترك أثرا كأثر الفراشة. فها هو يحتج على أوسلو دون أن يسانده أحد وينسحب وحيدا من المشهد السياسي دون أنصار لائذا بالمشهد الشعري بين أنصار لا حصر لهم. سيحاول كثيرون اخراج محمود درويش من حمى السياسة كما فعل المفكر ادوارد سعيد عام 1994 في مقالة بعنوان «عن محمود درويش» لمجلة «جراند ستريت «درويش لم يكن منتميا لأي حزب سياسي». وذلك بالتأكيد ليس كلاما دقيقا حتى وان كتب بالانكليزية.

أثر الفراشة الدرويشي هنا يكمن في شعره الانساني وليس الثوري. درويش أدرك مبكرا أن بقاءه شاعر الثورة سيضعه في قاموس محدود من الكلمات وجمهور هو من يكتب القصيدة لا شاعرها، والخروج من محيط هكذا شعر وجمهور هو خروج من الثورية عينها، أضف الى ذلك أنه شعر اختفى الكثير من فرسانه في العقود الماضية ولم يعد باستطاعته أن يترك أثرا يضاهي أثر الفراشة. اذن أثر الفراشة الحقيقي والذي قصده درويش -افتراضا- هو الشعر الانسانى. لا أعتقد أن شاعرا حداثيا أو تفعيليا تطورت أدواته الشعرية لم يقرأ درويش. درويش، وللحق أدونيس أيضا وأكثر أثرى الصورة الفنية واللغة الشعرية وغيّر ما يسمى بالنوع أو «الجانرا» في أغراض الشعر العربي كرثاء عبدالناصر أو ادوارد سعيد من التقليدي شكلا ولغة الى الحداثة شكلا ولغة.

ما يطمح له درويش الآن، بكل بتواضع، هو أن يقول لقارئه لقد تركت أثرا ساهم مع «فراشات» أخرى في تحريك الراكد وتغيير السائد. هو يطمح الآن أن تحرك فراشات أخرى أجنحتها اما لتغيير جديد أو إثراء هذا التغيير وتطويره.

بالطبع ما قصده «لورينز» ليس واقعا محضا.

علميا الاعصار ليس نتاج حركة أجنحة الفراشات، أما ما فعله درويش وأدونيس وسليم بركات وآخرون فكان اعصارا أدبيا جاء سابقا لحركة النقد الميتة اكلينكيا.

مات درويش ولم يمت خفق جناحيه، مات الشاعر ولم يخمد اعصاره، مات درويش وسيبقى

«أثر الفراشة لا يزول».