ذكرنا في المقال السابق أمثلة من أفلام السينما المصرية المأخوذة عن أعمال أدبية، عبر مراحل مختلفة لهذه السينما، وقلنا إن النية تتجه في المرحلة المقبلة إلى صنع أفلام جديدة عن روايات معاصرة، وأن الأمر من صالح السينما في بلادنا تشجيعه، ومن المؤسف بحق أن السينما خاصمت الأدب لفترة طويلة في مصر، وبعد ازدهار لهذه الموجة أو التوجه في أوقات سابقة خاصة في حقبة الستينيات.

Ad

ونقول إن في صالح السينما تشجيع مد الجسور بينها والأدب، وأن في ذلك وسيلة من وسائل دعم السينما وإنقاذها، خصوصاً في فترات ضعفها. وقد التحمت، أو تعانقت، السينما والأدب في مصر عبر المراحل وكانت الذروة في الستينيات، وتحولت المعاني والصور بلغة الأدب في أعمال أعلام الأدب من الأجيال كلها إلى لغة السينما وروحها، لكن توقف المد أو كاد عند أجيال ما بعد يوسف إدريس...! وعلى الرغم من ظهور أعمال أدبية رفيعة لموهوبين مقتدرين في الرواية والقصة إلا أننا لم نشاهد أفلاماً عن سطورهم التي أبدعوها، إلا في ما ندر، ومن بينهم مبدعو جيل صبري موسى وسليمان فياض وأبو المعاطي أبو النجا وصالح مرسي وجميل عطية إبراهيم وعبد الحكيم قاسم، مروراً بيحيى الطاهر وبهاء طاهر ومجيد طوبيا وأحمد هاشم الشريف وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وإبراهيم عبد المجيد ويوسف القعيد... وصولاً إلى أجيال التسعينات والعقد الأول من القرن الحادي عشر، الذي تشهد سنواته ازدهاراً ملحوظاً في الرواية وتألق أسماء جديدة ومواهب مميزة، من الروائيين والروائيات على السواء.

ذلك كله تجاهلته السينما المصرية، على مدار الثلاثين عاماً الأخيرة، أو يزيد، وقد شارك في هذا الموقف السينمائيون في «السينما الفنية» وفي «السينما التجارية» على السواء...! ففي الأولى حرص معظمهم على سيناريوهات تكتب خصيصاً للسينما، بل وحاول بعض المخرجين الفنانين كتابتها بأنفسهم (ولم ينجح في ذلك إلا قلة نادرة من محمد خان في «أحلام هند وكاميليا»، إلى داود عبد السيد في «أرض الخوف»، إلى هالة خليل في «قص ولزق»...)، أما في السينما التجارية فلم نشهد إلا أعمالاً قليلة للغاية مثل مجموعة الأفلام المأخوذة عن ملحمة «الحرافيش» لنجيب محفوظ. وفي مرحلة سابقة شاهدنا الطرفين، في السينما الفنية والسينما التجارية، يتسابقان إلى الأعمال المستمدة أو المستندة إلى الأدب، ففي الأولى كان يقدم المخرجون (الفنانون) الكبار صلاح أبو سيف «بداية ونهاية»، ويوسف شاهين «الأرض»، وتوفيق صالح «يوميات نائب في الأرياف»، وبركات «دعاء الكروان»... وهكذا، بينما في اللحظة نفسها كان يسارع المخرجون (التجاريون) اللامعون إلى الأدب أيضاً، فيقدم حسن الإمام «الثلاثية» و{زقاق المدق» لنجيب محفوظ، ويقدم حسام الدين مصطفى «السمان والخريف» و»الشحاذ» لمحفوظ أيضاً بل ويتجه إلى الأدب العالمي، خصوصا الروسي المرموق ودرته الروايات الكبرى لـ «ديستويفسكي» (فرأينا الأخوة الأعداء، الشياطين، سونيا والمجنون).

كانت الظاهرة عموماً صحيحة، وإن كنا «تأذينا» كثيراً من دخول المخرجين الحرفيين التجاريين إلى هذه الساحة، التي بدت مستباحة، خصوصاً بمستوى حسام الدين مصطفى فقد أقبل من سينما استهلاكية بالغة السطحية إلى أعمال أدبية كبرى راقية بالغة العمق على مستويات عدة: اجتماعية وفلسفية ونفسية، ولمن؟... لـ «كبير الأدب العربي»، و{كبير الأدب الروسي»!

لكننا اعتبرنا أن هذه، «ضريبة» وجود تلك الظاهرة الصحية الإيجابية.

أما السينمائيون (الفنانون) بحق، أي أصحاب الرؤية الفكرية، فإننا لا نطالبهم أبداً بأن يتنازلوا عن رؤيتهم لصالح رؤية الأديب، وإنما أن يختاروا من الأدب المعالجة والدراما التي تعبر عن رؤية قريبة من رؤيتهم، ولم يقل لهم أحد إن «ينقلوا»، بل إن النقل هنا «عيب» فني، ومحاكاة الفيلم للرواية لمجرد «ترجمتها» من وسيط فني إلى آخر هو بالتأكيد من أوجه «القصور».

المقصود الوحيد، لتكون تلك العلاقة بين السينما والأدب إيجابية ولتحقيق التواصل المفيد، هو الاستفادة من قوة الدراما في عمل أدبي، وهو «الاستناد» إليه أو «الاستلهام» منه... وكم من أعمال فنية وروائع كبرى في فن السينما في العالم عبرت عن رؤية مخرجين عمالقة، بقدر ما عبرت في الوقت ذاته، أو كادت، عن رؤية الروائي المقتدر صاحب الرواية.