بين مؤلفات «الأصمعي» المطبوعة، يقف كتابه «الخيل» صغير الحجم عظيم الفائدة، شاهداً

Ad

على أسلوبه الفريد، وعلمه، ودقته.

والأرجح أن «الأصمعي» أنجز كتابه «الخيل» في ختام النصف الأول من عمره المديد، إذ إنه يكثر من ذكره، وربما قاس عليه كتباً أخرى له، وفي كل الأحوال فهو من أقدم ما صنف في العربية عن الخيل.

وكان أول من عني بتحقيق مخطوطه ونشره المستشرق «هفنر» الذي نشره بفيينا عام 1895 معتمداً في تحقيقه نسخة خطية واحدة، هي نسخة مكتبة كوبرللي بتركيا برواية العلاّمة أبي علي الفارسي المتوفى سنة 377هـ. وللكتاب مخطوطان آخران محفوظان في المكتبة الظاهرية بدمشق، يعود تاريخ نسخ أولهما إلى 410هـ، والثاني به هامش للعلامة «أبو بكر الباقلاني» ـ صاحب كتاب إعجاز القرآن ـ بتاريخ 425هـ، وقد بدأ الكتاب بإسناد روايته إلى أعلام كبار ثبتوا نسبته إلى مؤلفه. ‏

شعر ونثر

يمكن حصر مادة كتاب «الخيل» كما أوردها «الأصمعي» شعراً ونثراً في عشرة أبواب، هي:‏

● حَمْل الخيل ونتاجها.‏

● أسنان الخيل.‏

● خلق الخيل ووصف أعضائها.‏

● ما يُستحبّ في الخيل.‏

● ما يُكره في الخيل.‏

● العيوب في الحافر.‏

● صفة مشي الخيل وعدوها.‏

● ألوان الخيل.‏

● الشيات.‏

● الخيل المنسوبة.‏

و«الأصمعي» يذكر عنوان الباب ثم يورد ما يتعلق به من مثل ونثر وشعر ويفسّره، كقوله:

ومن ألوان الخيل: الكُمتة والحُمّة وهو أحبّ الألوان إلى العرب مع الحوّة. والكُمتة: حمرة تدخلها قنوء، يقال: أكماتّ يكماتُّ اكميتاناً، ويقال: أكمَتَّ يكْمَتُّ اكمتاناً ويقال: إدهامّ يدهامّ إدهيماماً. وفي الكُمتة لونان: يكون الفرس كُميتاً مدمّى (شديد الحمرة) ويكون كميتاً أحمّ.‏

وأشدّ الخيول جلوداً وحوافر: الكُمْتُ والحُمّ.‏

ومنها الصُفرة: يقال: فرس أصفر وفرس صفراء، ويسمّى بالفارسية الزّرْد، ولا يسمّى أصفر حتى يصفرّ ذنبه وعُرْفُه‏.

ومما ذكره «الأصمعي» عن صفات الخيل‏:‏ ما سبق في الرهان فرس أهضم قط‏.‏ والأهضم هو ضامر البطن.

وعندما قال «أبو النجم» الشاعر يصف فرساً:

تطيره الجن وحينا ترجله

تسبح أخراه ويطفو أوله

قال «الأصمعي»:‏ إذا كان الفرس كما قال أبو النجم فحمار الكساح أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قبيح‏.‏ وقال: كان أبو النجم وصافاً للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت‏.‏ وهو نقد يدل على سعة معرفة «الأصمعي» بالخيل وبالشعر معاً، مع ذهن صافٍ، وذائقة سليمة، وأنه إذا كان هناك بين من كتبوا عن الخيل بعض من كتب على طريقة «حاطب الليل»، بأن جمعوا عبارات لا يدركون كل معناها، وألفاظاً لا يعرفون سر اشتقاقها وأصل مبناها، وروايات لا يمكنهم توثيقها، فإن «الأصمعي» كان على معرفة بما يكتب، وثقة بما يعرف.

أسماء الطير في الفرس!

ومما يدل على معرفة لا تبارى بالخيل، حكاية يقصها «الأصمعي» أولها أن «هارون الرشيد» ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود الحلبة‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين، والحلبة يومئذ أفراس للرشيد، ولولديه الأمين والمأمون، ولسليمان بن أبي جعفر المنصور، ولعيسى بن جعفر‏.‏

فجاء فرس أدهم يقال له «الربد» لهارون الرشيد سابقاً؛‏ فابتهج لذلك ابتهاجاً علم ذلك في وجهه وقال‏:‏ عليَّ بالأصمعي‏،‏ فنوديت له من كل جانب؛ فأقبلت سريعاً حتى مثلت بين يديه‏.‏

فقال‏:‏ يا أصمعي خذ بناحية الربد ثم صفه من قونسه إلى سنبكه (من رأسه إلى حافره) فإنه يقال‏ إن فيه عشرين اسماً من أسماء الطير‏.‏

قلت‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين وأنشدك شعراً جامعاً لها من قول أبي حرزة‏.‏

قال‏:‏ فأنشدنا لله أبوك‏.‏

قال‏:‏ فأنشدته‏:‏

وأقب كالسرحان تم له

ما بين هامته إلى النسرِ

رحبت نعامته ووفر فرخه

وتمكن الصردان في النحرِ

وأناف بالعصفور من سعفٍ

هام أشم موثق الجذرِ

وازدان بالديكين صلصله

ونبت دجاجته عن الصدرِ

والناهضان أمر جلزهما

فكأنما عثما على كسرِ

مسحنفر الجنبين ملتئم

ما بين شيمته إلى الغرِ

وصفت سماناه وحافره

وأديمه ومنابت الشعرِ

وسما الغراب لموقعيه معاً

فأبين بينهما على قدرِ

واكتن دون قبيحه خطافه

ونأت سمامته عن الصقر

وسما على نقويه دون حداته

خربان بينهما مدى الشبرِ

يدع الرضيم إذا جرى فلقاً

بتوائم كمواسم سمرِ

ركبن في محص الشوى سبط

كفت الوثوب مشدد الأسرِ

قال الأصمعي‏:‏ فأمر لي بعشرة آلاف درهم‏.‏

وفي هذه الأبيات من أسماء الطير التي تُطلق على أعضاء في الفرس:

النسر: وهو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه كأنه النوى والحصى. والنعامة‏:‏ جلدة رأسه التي تغطى الدماغ. والفرخ‏:‏ الدماغ. والصردان: عرقان في أصل اللسان، وفي الظهر صرد أيضاً وهو بياض يكون في موضع السرج من أثر الدبر. والعصفور: أصل منبت الناصية، وعظم ناتئ في الجبين. والديكان: مثنى الديك، وهو العظم الناتئ خلف الأذن. والصلصل: بياض في طرف الناصية. والدجاجة‏:‏ اللحم الذي على زوره بين يديه‏. والناهضان: مثنى الناهض ـ أي فرخ القطا ـ وهو في الفرس لحم المنكبين. والغر: عضلة الساق. والسمان (سماناه): السمامة دائرة تكون في عنق الفرس. والغراب: رأس الورك. والخطاف: موضع الركل في عقب الفرس (أي الجزء الذي يضرب به حين يركل). والصقر: دائرة في الرأس. والنقوان: مثنى نقو، والنقو عظم الورك، وهو في الطير ذكر الحبارى. والحدأة (حداته): وهي سالفة الفرس.

ومما يحتاج إلى إيضاح في الأبيات: الأقب: ضامر البطن. السرحان: الذئب. أناف‏:‏ علا. سعف: يقال فرس سعف إذا كان شعر ناصيته منسدل. أشم: مرتفع. نَبَت: بعدت. أُمِرَ جلزهما: أحكم فتلهما. عُثِما على كسر: جبرا بعد كسر. مسحنفر: منتفخ. اكتن: استتر. شيمته: نحره. الرضيم: الحجارة. المواسم‏:‏ جمع ميسم، والميسم قطعة من الحديد تحمل علامة خاصة يكوى بها الفرس لتدل على ملكية صاحبه له، أي أن سيقان الفرس كمواسم الحديد في صلابتها‏.‏ الشوى: قوائم الفرس، ومفردها شواة. كفت الوثوب: لا تتراخى أعضاه إذا وثب. مشدد الأسرِ: مفتول العضلات.

والبيتان الأخيران معناهما أن الفرس يفلق الحجارة إذ يضربها بسيقانه المتماثلة كأنها توائم، والتي تشبه الحديد في صلابتها، مع كونها مركبة في جسد رشيق مفتول العضلات.

هذه هي معرفة «الأصمعي» بالخيل. معرفة تستغرق الكليات، والتفاصيل، وتفاصيل التفاصيل، مجموعة في صدر علامة محقق، وراوية مدقق، ولغوي أحاط بالغريب، ورائد قطع الخطوة الأولى والمهمة على طريق الكتابة عن «الخيل».