مذكرات فؤاد بطرس هذه قصة الاشتباك مع الفلسطينيين و اتفاق القاهرة أبوعضل يقلب الموازين ويعزز فوز فرنجية بالرئاسة بفارق صوت واحد وصية فؤاد شهاب قبل وفاته بثلاث ساعات: احمل مستقبل لبنان بالطول مش بالعرض الحلقة الرابعة

نشر في 18-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 18-08-2008 | 00:00
يبدي فؤاد بطرس أسفه لأن فترة حكم الرئيس شارل حلو لم تكن امتدادا لعهد فؤاد شهاب، ذلك أن حلو تعاطف مع ريمون إده في انتخابات جبيل الفرعية ثم مع «الحلف الثلاثي» في انتخابات 1968 النيابية «ثأرا من ممارسات الضباط الشهابيين»، ويروي دوره وزيرا للدفاع والتربية ثم خصوصا وزيرا للخارجية، ولاسيما إبان العدوان الإسرائيلي على مطار بيروت في 1968، ويتناول بالتفصيل حرب 1967 وتداعياتها على لبنان، ثم يتناول العلاقات السورية- اللبنانية التي اتخذت منذ عام 1968 طابعا متشددا من جانب النظام البعثي في دمشق، مرفقا باتهام لبنان بإيواء «المعارضين الموالين للصهيونية والإمبريالية».

وفي هذه الحلقة يروي بطرس قصة «اتفاق القاهرة» والمقدمات التي أدت إليه والنتائج التي أوصلت إلى تصدع الدولة ومهدت لحروبها.

الحرب آتية لا محالة

سكنت البلاد ابتداء من عام 1969 روح شيطانية، وبغض النظر عما إذا كان مصدر الشر الناس أو الأرواح، فإن التشنج بدأ يصبح سيد الموقف. لم تعد التصاريح في نظر المتنازعين كافية وصار النزول إلى الشارع هو الدواء الوحيد الذي يصفه السياسيون لدى مصادفتهم لأية مشكلة. بدأ العام بمعارضة «الحلف» القوية لحكومة كرامي ذات الطابع النهجي وقرر أركانه في خلوة عقدوها مبدأ الدعوة إلى إضراب عام مفتوح. ودعوا في المذكرة التي قدموها الى رئيس الجمهورية إلى حل الحكومة ورد على جماعة «الحلف» خصومهم الذين اتهموا حركتهم بالطائفية، وبالرغبة في إبعاد الجيش والدعوة إلى الإتيان بالقوات الدولية بهدف تحييد لبنان في الصراع العربي- الإسرائيلي. وقدّم الرئيسان حسين العويني وعبدالله اليافي مذكرة إلى الرئيس حلو أكدا فيها أن تشكيل حكومة وطنية مستحيل على قاعدة مطالب الحلف.

وعلى إثر اشتباك وقع بين الجيش اللبناني وفدائيين في منطقة كفركلا في السادس عشر من نيسان (أبريل)، دعت أحزاب وتيارات يسارية إلى الإضراب والتظاهر في الثالث والعشرين من الشهر نفسه، متهمة الجيش بالعمل على تصفية القضية الفلسطينية. وفي يوم الإضراب، وقعت صدامات عنيفة بين المتظاهرين وقوى الأمن، بدأت في صيدا وسرعان ما انتقلت إلى بيروت الغربية وبر الياس في البقاع، وسقط قتلى وجرحى من الطرفين. وفي اليوم التالي، أعلن الرئيس رشيد كرامي استقالته في مجلس النواب معتبراً أن البلد منقسم حول وضع الفدائيين وحركتهم وأن على اللبنانيين أن يحددوا سياسة موحدة حول هذه المسألة «وإلا فلن تستطيع حكومة أن تواجه الأزمة». ووقعت البلاد في فراغ حكومي على رغم موافقة كرامي على تصريف الأعمال. وزاد في حدة المأزق التدخل السوري المحرض للشارع الإسلامي على معارضة الحكم والمسهل لمرور المجموعات الفلسطينية والسلاح نحو الحدود الجنوبية اللبنانية.

جرت محاولات عديدة لترتيب الوضع الداخلي منها محاولة قام به مبعوث خاص من الرئيس عبدالناصر. كما أن قائد الجيش العماد إميل البستاني توصل مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، في التاسع من أيار (مايو)، إلى مشروع اتفاق من خمسة عشر بنداً، لكن الرئيس حلو رفضه في شكل قاطع لأنه كان ضد مبدأ توقيع اتفاق خطي بين الدولة اللبنانية وميليشيا ولأنه لا يريد أن يكون له التزام مع منظمة التحرير لا يتم التوصل إليه بالتشاور مع الدول العربية.

صدقة يهرب من القاهرة متمارضاً

تفاقمت الأوضاع وكثرت الاشتباكات المسلحة بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية، وأعلن كرامي وقف تصريف الأعمال وتحمُل مسؤوليات مناقضة لآرائه السياسية واعتقاداته الدينية. وأعلن الزعماء المسلمون، من دينيين وسياسيين، بعد اجتماع عقدوه في دار الفتوى برئاسة المفتي حسن خالد، في الثالث والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1969، أنهم يربطون بين مشاركتهم في السلطة وبين إلغاء التدابير التي تحد من حركة الفدائيين. ووصلت بذلك الأزمة إلى ذروتها، ولم يكن بإمكان الرئيس شارل حلو إلا قبول وساطة جديدة للرئيس عبدالناصر الذي دعا إلى اجتماع يُعقد في القاهرة بين رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات ومسؤولين كبار لبنانيين. وبعدما كان مقرراً أن يترأس الوفد اللبناني الرئيس رشيد كرامي، لم يذهب إلى القاهرة سوى قائد الجيش العماد إميل البستاني والأمين العام للخارجية نجيب صدقة والرائد سامي الخطيب.

عندما توجه الوفد اللبناني، في الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر)، إلى العاصمة المصرية اجتمعت برئيس الجمهورية الذي بدا منذ البداية متشائماً مما ستؤول إليه المحادثات، وقال لي، بعدما استعرض مطالب الفدائيين وحلفائهم اللبنانيين والظروف الداخلية والإقليمية: «لقد باتوا الآن في القاهرة فلنر ما يمكن القيام به للخروج من المأزق والحائط المسدود». وأخذت ألتقي الرئيس حلو كل يوم تقريباً للبحث في مستجدات المباحثات الجارية في القاهرة. وفي الحادي والثلاثين من الشهر نفسه ترك الأمين العام للخارجية نجيب صدقة مصر بحجة أنه مريض وعاد إلى لبنان بضعة أيام. وقال لي صدقة لاحقاً، أنه أبلغ الرئيس شارل حلو، سبب انسحابه: «بعدما اطلعت على مشروع الاتفاق، لم يعد بمقدوري تقبل المسار الذي أخذته الأمور، ولا أريد أن يكون اسمي وارداً في هذه العملية. أنا رجل دبلوماسي، وما حصل يتنافى مع نظرتي وموقفي، وإذا كانت إمكانات لبنان لا تسمح له بتجنب ما سيأتي فأفضّل أن أبقى بعيداً عن الموضوع».

كان العماد البستاني يجري اتصالات يومية بالرئيس حلو ويضعه في أجواء الاجتماعات. وقبيل توقيع الاتفاق، اتصل بي الرئيس واستدعاني ليأخذ رأيي به وقد تقرر أن يبقى سرياً للغاية. وفي الواقع، لم يطلع عليه في ذلك الحين معظم السياسيين اللبنانيين. وقال لي وهو يعطيني الورقة التي كُتبت عليها بنود مشروع الاتفاق: «هذه القصة وجعة راس وهذا هو مشروع الاتفاق الذي يجري العمل عليه وأنا لا أستطيع أن أقبل به فما هو رأيك؟» أخذت الورقة من يد الرئيس وقرأتها بهدوء وتمعن وقلت له: «سأجيبك بكلمتين إما ألا تقبل به، وتندلع المواجهات الآن، وإما أن تقبل به الآن وتندلع الحرب بعد خمس سنوات، عليك أنت أن تختار ولن أزيد».

النزوح الأول

لم يكن بمقدوري أن أقول أكثر، كل ما رأيته أمامي هو أن الحرب على الأبواب، هل كان من الأفضل أن تندلع في ذلك الوقت؟ لا أستطيع أن أجيب بنعم أم بلا لأنه لم تكن عندي معطيات كافية عن الوضع العسكري ولم أكن المسؤول لكي آخذ القرار وأتحمل مسؤولية تبعاته على البلد وأهله. في تلك الفترة كنت متشائماً جداً، وكنت أتساءل كيف أصبحت المنظمات الفلسطينية فجأة بهذه القوة وكانت قبل ثلاث سنوات، أيام كنت في وزارة الدفاع، تحت سيطرة القوات المسلحة الشرعية. قبل اتفاق القاهرة، كنت خائفاً من انفجار الوضع، بعده، أيقنت أن الانفجار آت، لا محالة. وبالنتيجة، وقّع لبنان ذلك الاتفاق، ونُفّست الأزمة وشكّل الرئيس رشيد كرامي حكومة في الخامس والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1969. ولكن الاتفاق لم يحل دون الاحتكاكات التي سرعان ما كانت تتحول إلى مواجهات دامية بين الفلسطينيين وقوى الأمن وبين الأولين والأحزاب المسيحية، كما حصل، في الأشهر الأولى من عام 1970، في بنت جبيل والكحالة وحارة حريك والدكوانة وغيرها. ورداً على عمليات الفدائيين، قامت إسرائيل باجتياحها الأول للبنان، في الثاني عشر من أيار (مايو)، وتسببت بموجة النزوح الأولى من الجنوب، إلى بيروت وضواحيها.

في هذه الأجواء المتشنجة التي تنذر بعاصفة مدمرة وشيكة، فتح موضوع استحقاق رئاسة الجمهورية. وفي الحادي عشر من تموز (يوليو) 1970، رشّح الرئيس رشيد كرامي، باسم نواب النهج، الرئيس فؤاد شهاب. ثم أعلن رئيس حزب الكتائب بيار الجميل ترشيحه، في الحادي والعشرين من الشهر نفسه. وتقاطرت الشخصيات السياسية إلى منزل الرئيس فؤاد شهاب تحثه على قبول الترشيح، مؤكدة له استعدادها لدعم مسيرته في شكل كامل. وبدا من خلال استطلاع آراء النواب أن فوز الجنرال بالانتخابات مضمون ولكن ما لم يكن مضموناً هو مصير البلد بعد الانتخابات الرئاسية. وكانت لي أكثر من مناقشة معه حول موضوع ترشحه، لمست خلالها ميله إلى الرفض بسبب ما آلت إليه الحياة السياسية في لبنان بعد هزيمة عبدالناصر من تغلغل للمنظمات الفلسطينية وتعاطف القيادات الإسلامية معها المبالغ فيه. وكان فؤاد شهاب يردد في مجالسه الضيقة جداً: «تريدون أن تخلصوا الوضع أعطوني صلاحيات وحاسبوني». ولكنه كان يعلم أن دون ذلك عقبات كثيرة إذ شاهد كيف أن رئيس الحكومة يرفض إنزال الجيش ويهدد بالاستقالة في كل مرة كان الرئيس حلو يحاول الإمساك بالوضع الأمني.

«لن يرحمني أحد»

بعد النقاش المستفيض مع الرئيس شهاب حول موضوع خوض الانتخابات الرئاسية، توصلت إلى اقتناع كامل بأنه لن يقدم على هذه الخطوة، وكنت بدوري مقتنعاً بصوابية هذا الموقف. في غضون ذلك، دعا الرئيس رشيد كرامي جماعة النهج إلى فندق الكارلتون في تموز (يوليو) 1970 حيث تم البحث في دعوة الرئيس شهاب رسمياً إلى ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، واقترح بعضهم على النواب المبادرة إلى انتخابه حتى لو لم يتقدم بترشيحه. استمعت بانتباه إلى كل ما قيل من غير أن أتفوه بكلمة لأن مضمون أحاديثي مع فؤاد شهاب في موضوع الاستحقاق الرئاسي يفترض أن يبقى طي الكتمان، لا بل لم أظهر معارضة لمسعاهم وقبلت بتكليف الحاضرين لي بنقل تمنيهم إلى الجنرال والسعي لإقناعه. فقصدته في مطلع آب (أغسطس) في منزله الصيفي في عجلتون، لأبلغه التمني. وفور وصولي، وكان قد عرف بالطبع كل ما جرى في الكارلتون، استقبلني وبادرني بالقول:

- ألم نتوصل معاً إلى اتفاق على عدم التقدم بترشيحي بعد نقاشاتنا الطويلة؟ لماذا لم تبلغهم ذلك؟

- دعنا نعاود بحث المسألة مرة أخيرة، لعلنا انطلقنا في المرات السابقة من اعتبارات مخطئة.

- المسألة واضحة، يا فؤاد، لبنان مقبل على مشاكل واضطرابات وربما على حرب. كيف يعقل أن نواجه هذه الأمور؟ إن رئيس الجمهورية لا يملك صلاحية استخدام الجيش، إذا كان رئيس الحكومة غير موافق، وإذا اعتكف هذا الأخير تعطلت البلاد كلياً. أنا قائد جيش سابق ورئيس جمهورية سابق، لن يرحمني الرأي العام إن عجزت عن معالجة الأمور. أتريد تشويه صورتي ليقال، بعد أن أترك هذه الدنيا، إن فؤاد شهاب فشل في إنقاذ البلاد؟ إذا كانوا يريدون عودتي والسعي جدياً لإصلاح الأمور فعلاً، فليحرجوني عبر تعديل الدستور بشكل يجعلني حاكماً وليس فقط المسؤول الذي يحمل وزر المشاكل ولا يملك فعلياً زمام الحكم.

- إن اتجاه الطبقة السياسية الآن نحو تعديل الدستور لتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية.

- إني على علم بذلك. لهذا لا أجد من داع أو جدوى من عودتي.

- لقد اقتنعت بكلامك، فخامة الرئيس، لكن دعني أطرح عليك السؤال التالي: أنت تعتبر الياس سركيس ابنك الروحي، فلماذا تتركه يترشح على رغم المشاكل الصعبة التي تذكرها؟

- لابد من رئيس للبنان، هل نترك البلد بلا رئيس؟ والياس سركيس أفضل من سواه، أضف إلى ذلك أن الرأي العام سيرحمه ويقدر ظروفه أما أنا فلن يرحمني.

أشرس انتخابات رئاسية

بعد أن تداولنا مرة أخيرة في المسألة، قلت للرئيس شهاب إنه من الضروري أن يصدر بيان عنه يشرح أسباب عدم قبوله بالترشح للانتخابات الرئاسية وبكلام أدق عدم قبوله بالمنصب لأن الفوز به، على الأقل بالنسبة إلينا، كان مضموناً. فكلفني بكتابة بيان العزوف عن الترشح بالفرنسية وإرساله إليه. وصباح اليوم التالي، جلست وزوجتي في منزلنا في عاليه ونصصت عليها البيان باللغة الفرنسية. ثم أرسلته إلى الرئيس فؤاد شهاب الذي كلّف حاكم مصرف لبنان الياس سركيس بترجمته إلى العربية مع تعديل بسيط، ونشر في الرابع من آب (أغسطس) 1970 وجاء فيه:

«إن الاتصالات العديدة التي أجريتها والدراسات التي قمت بها عززت قناعتي بأن البلاد ليست مهيأة بعد، ولا معدة، لتقبل تحولات لا يمكنني تصور اعتمادها إلا في إطار احترام الشرعية والحريات الأساسية التي طالما تمسكت بها. وبناء على ذلك، واستناداً إلى هذه المعطيات قررت ألا أكون مرشحاً لرئاسة الجمهورية. وفي هذا الوقت الذي أعلن فيه قراري هذا أتوجه بالشكر إلى السادة النواب والسياسيين والهيئات الذين أولوني ثقتهم متمنياً لهم التوفيق في خدمة لبنان».

كان إلياس سركيس، بعد عزوف الرئيس شهاب، تلقائياً مرشحنا إلى الرئاسة في عام 1970 على رغم الأسماء الأخرى المتداولة للرئاسة وفي مقدمها اسم صديقي الشيخ ميشال الخوري الذي كنت ولا أزال أكن له كل محبة وتقدير. غير أننا كشهابيين، لم نفكر بغير حاكم مصرف لبنان، وقد أشارت الدلائل الأولية كلها إلى فوزه، وإن بفارق غير كبير، إلى أن أعلن سليمان فرنجية ترشحه بعدما فاتحه بالأمر الرئيس كميل شمعون وأقنعه به. وفي الواقع، كان رجل الأعمال جورج أبوعضل، صديق الوزير سليمان فرنجية، اتصل بي قبل ذلك وقال لي إن هذا الأخير على استعداد للتفاهم مع سركيس ودعمه، وقد يكون من المفيد ترتيب لقاء بين الرجلين قبل جلسة الانتخاب. وكنا قد حددنا موعداً، ولكن بعدما أقنع الرئيس شمعون فرنجية بالترشح، اتصل بي أبوعضل مجدداً لإبلاغي قرار سليمان فرنجية بخوض الانتخابات الرئاسية قبل ثلاثة أيام من الموعد المقرر بين فرنجية وسركيس. وكان ما كان من انتخابات هي الأكثر تنافسية بتاريخ الجمهورية اللبنانية والتي فاز بها الرئيس سليمان فرنجية بفارق صوت واحد.

نهاية محزنة للشهابية

انتهى عهد الرئيس شارل حلو وانتهت معه رسمياً مرحلة الشهابية، والمفارقة هي أن أركان المرحلة الشهابية، وفي مقدمهم الرئيس فؤاد شهاب، هم من أوصلوا حلو إلى رئاسة الجمهورية، ولم يكن ليصل إليها، على الأقل في تلك الفترة، من دون دعمهم. في المقابل، لم يعمل شارل حلو ما ينبغي لدعم الشهابية بل مال نحو خصومها مثل العميد ريمون إده في عام 1965 في الانتخابات الفرعية، وساند الحلف في انتخابات عام 1968، وعمل ما في وسعه في الانتخابات الرئاسية في عام 1970 لكي يكون للمعارضة، أي لتكتل الحلف والوسط، مرشح واحد. لم أفهم موقف حلو في حينه إلا من باب الرد على تصرفات بعض ضباط الشعبة الثانية الذين لم يحسنوا التصرف معه. فقد شعر مراراً بالمساس بموقعه وبمحاولة تجاوزه بشكل دائم، لذلك لم يترك فرصة تفوته إلا اغتنمها لكي يثأر لنفسه. تنبهت لهذا الأمر باكراً ولفتُ نظر الرئيس فؤاد شهاب إليه ولكن ثقته بضباط المخابرات كانت كبيرة جداً. قلت له مراراً: «فخامة الرئيس، غابي لحود رجل جيّد، ومخلص، ولكن المرحلة وما حفلت به من أحداث حمّلته أعباء لا يستطيع أي فرد أن يتحملها بمفرده».

لم يكن في الواقع حول الرئيس شهاب الكثير من الأشخاص الكفوئين الذين كان بإمكانه الاتكال عليهم. لذلك حصلت أخطاء غير مقصودة من جانب جماعة الشعبة الثانية لأنهم أيضاً لم يتنبهوا إلى ضرورة تبديل مسلكهم تبعاً لتطور الظروف والأحداث في لبنان والمنطقة لا سيما بعد حرب 1967. لكن الرئيس شهاب بقي يدافع عنهم حتى اليوم الأخير من حياته. وفي زيارة له، قمت بها قبل ساعات من وفاته، في الخامس والعشرين من نيسان (أبريل) 1973، قال لي: «يا فؤاد، كان معك حق، حمّلنا جماعة الشعبة الثانية أكثر من طاقتهم، ربما كنا مخطئين من هذه الناحية». وأثناء مغادرتي منزله، رافقني الرئيس شهاب إلى الخارج وكنت أتحدث عن تدهور الوضع السياسي والاشتباكات مع الفلسطينيين، وتشعب المسألة اللبنانية وتداخلها مع الأزمات الإقليمية الصعبة، اقتربنا من السلالم فنظر إليّ مبتسماً وقال بما يشبه الوصية: «احمله بالطول مش بالعرض»، في إشارة منه إلى نظرتي المتشائمة حيال مستقبل لبنان.

كانت تلك آخر الكلمات التي سمعتها من الرئيس شهاب الذي لم يكن يبدو عليه في ذلك اليوم وهن أو علامات مرض. وفوجئت بعد أقل من ثلاث ساعات بنبأ وفاته الذي آلمني كثيراً وأحزنني. ومما كتبته عن الرئيس الراحل بعد ثلاثة أيام في جريدة «الصفاء» تحت عنوان «فؤاد شهاب الحبيب غير المحبوب»:

التاريخ حابك الأساطير ومفككها، لم يكن يوماً موضوع التماس ملح كما هي الحال منذ رحيل اللواء فؤاد شهاب.

فئة كانت حتى الأمس لاتزال تنكر السياسي، تبادر إلى دفع الراحل الكبير في عالم المستقبل متوخية إراحة الضمير، وحل المشكلة من طريق استبعادها بإلغائها، في وقت واحد.

(...) في بلد غالباً ما تطبع فيه المساواة العلاقات الإنسانية، وتشكّل فيه المحاباة شكلاً من آداب السلوك، كان من الصعب على فؤاد شهاب، وقد رُفع إلى القمة، ألا يعاديه قسم من رجال السياسة، ومن الرأي العام لا سيما وأن الرجل كان يتمتع بسمو في الرؤية، وبُعد نظر، إذا ما أضيف إلى حصافته في الحكم، واستقامته الفكرية والأخلاقية، أحلّه في مستوى يشعر خصومه فيه بالانزعاج بسبب تنشئتهم أو نزعاتهم (...)

مرارة الكأس

صحيح أن شارل حلو كان الرئيس الوحيد بتاريخ لبنان الذي تسلّم زمام حكم البلاد، وهي على قدر كبير من الاستقرار والازدهار. ولكن من الصحيح أيضاً أن ما عرفته المنطقة ابتداء من هزيمة عام 1967، أشبه بالزلزال الذي بدّل كل المعطيات، وأخرج لبنان من الاعتدال الذي وفره له تفاهم النظام اللبناني مع النظام القائم في القاهرة. لا أحبذ الافتراض في قراءة الأحداث التاريخية غير أنني أميل إلى الاعتقاد بأنه لم يكن بمقدور أي شخص مكان شارل حلو في رئاسة الجمهورية أن يجترح المعجزات ويجنب لبنان الكأس المرة التي شربها في آخر الأمر.

انصرفت ابتداء من نهاية ولاية الرئيس شارل حلو في عام 1970، كلياً إلى مكتبي للمحاماة، ولم تكن لي إلا زيارات مجاملة نادرة لرئيس الجمهورية سليمان فرنجية قبل اندلاع أحداث 1975. وكانت أجواء البلاد في السنوات السابقة للحرب لا تحملني على التفاؤل خصوصاً مع استمرار تدفق المقاتلين الفلسطينيين عبر الحدود مع سورية بعد أحداث أيلول (سبتمبر) الأسود في الأردن، واستمرار المواجهات بين الجيش والمقاومة الفلسطينية التي بلغت ذروتها في عام 1973 عندما اندلعت معارك عنيفة حاول فيها الجيش استخدام الطيران لإعادة الهدوء والانضباط إلى المخيمات، ولكن الدول العربية ضغطت بقوة على الرئيس فرنجية وحملته على إيقاف العملية.

كانت الفترة الممتدة من عام 1970 حتى 1975 مزدهرة على مستوى أعمالي، فقد ثبّت مكتبي خلالها مركزه كأحد المكاتب المهمة في بيروت، وقد تدرج وعمل فيه محامون بارزون منهم من تبوأ في ما بعد أعلى المناصب في السياسة والقضاء من أمثال أمين الجميل ومنير حنين وسيمون كرم وفيليب خير الله وزكريا نصولي واسكندر غبريل وجوزف مغبغب، وفؤاد السعد، وكبريال طراد، ونقولا أسود، وبهيج طبارة الذي كان خير معاون ثم شريكاً لسنوات عديدة تحمل خلالها كامل المسؤولية خصوصاً في كل مرة كنت أُعيّن فيها وزيراً، وغيرهم ممن تدرج أو تعاون معي في المكتب. وقبيل اندلاع أحداث عام 1975، عرض أحد مكاتب المحاماة البارزة في نيويورك علينا شراكة وتعاوناً في منطقة الشرق الأوسط، واستأجر الطابق الذي فوق مكتبنا مباشرة في بناية الكمال، وبحثنا في إمكانية فتح مكتب مشترك بيننا في الخليج. وكنا على أبواب آفاق جديدة واسعة عندما دهمتنا الحرب وأوقفت كل شيء.

يتبع

back to top