هل تمثل إيران تهديداً جدياً للدولة العبرية أم ضالة ما انفكت هذه الأخيرة تبحث عنها، «خطراً وجوديا» ما عاد العرب قادرين على أن يكونوا له مصدراً، هو «شقيق الروح» بالنسبة إلى إسرائيل، إحدى دعامات شرعيتها، في نظر نفسها وفي نظر العالم أو سواده الأعظم والنافذ، وذريعة امتناعها عن كل تسوية؟

Ad

تبدو الجمهورية الإسلامية بالفعل، أقله في حدود ما يوحي به ظاهر الأمور، مرشحاً مُقنعاً للاضطلاع بدور «الخطر الوجودي» على إسرائيل، فهي طرف ممانع، سافر صريح في ممانعته، جهير اللفظ في رفض «الكيان الصهيوني» يتوقع زواله وقد ينتدب نفسه أداة لإنفاذ ذلك الزوال، يحوز بعض أسبابه ووسائله: تكنولوجيا نووية يسعى حثيثاً إلى امتلاك ناصيتها، وامتدادات ايديولوجية ومذهبية، يبلغ بعضها حدود الدولة العبرية وقد يلابسها وجوداً، تربطها بطهران وشائج عضوية («حزب الله» اللبناني) أو من قبيل مجرد التحالف (حركة حماس الفلسطينية)، فاعلة في عدائها لإسرائيل قادرة على ترجمة عدائها ذاك جهاداً...

لكل ذلك، وبـ«فضل» إيران، يصبح بإمكان الدولة العبرية أن تسبغ على مخاوفها الوجودية مصداقية، وذلك للمرة الأولى منذ أن توقفت حروبها الكبرى (كانت آخرها حرب 1973) مع الجوار العربي قبل عقود، والحال أن مثل تلك المخاوف حاجة حيوية لدى إسرائيل، نفسية على ما قد يقول المولعون بمثل هذا الضرب من التفسيرات، بالنسبة إلى شعب كابد طويلاً هاجس الاندثار أو الإبادة، أو لأن المخاوف تلك، وهذا ما قد يكون الأهم، تُمكّن الدولة العبرية من الإقامة في مرتبة الاستثناء، تلك التي احتلتها واستمرأتها منذ أن بُعثت الصهيونية حركة سياسية فدولةً. فـ«الخطر الوجودي»، كخطر أقصى في سلّم الأخطار ليس بعده خطر، يبيح لمن يستشعره أو يواجهه كل شيء: مظلمةً بفداحة تلك التي جدّت على أرض فلسطين، وأدت إلى اجتثاث شعب واستبداله بآخر، وتحلّلا مما استقر أعرافاً وقوانين يُصار إلى تعليقها أو تُسامُ تجاهلاً. بعض ما قد يفسر لا مبالاة الدولة العبرية بالقرارات الدولية إنما يعود إلى ما تأنسه في نفسها من صدورٍ عن استثناء كذلك الذي سبقت الإشارة إليه ومن مراوحة فيه.

خلال العقود الماضية، منذ حرب سنة 1973 وفق تحقيب قد يكون، ككل تحقيب، تقريبيا غير دقيق، دخلت تلك المقاربة الإسرائيلية في أزمة، هي المتمثلة في أنها كفت عن أن تكون مطابقة لواقع قائم، وإن من باب الادعاء. لم تبق من جيوش عربية تتداعى إلى «رمي اليهود في البحر»، أو قادرة على إنجاز «عبور»، وأضحى أقصى ما في وسع قوى الجوار، إن أحجمت عن «السلم»، الممانعةُ سلباً، لا المبادرة هجوماً. غير أن الخطاب الإسرائيلي استمر على ما درج عليه، أساسه افتراض «الخطر الوجودي»، يُبرَّر به الإمعان في سياسة الاستيطان والإصرار على إنكار الواقعة الوطنية الفلسطينية، من ضرب بناها ومؤسساتها أثناء «انتفاضة الأقصى»، إلى القتل والملاحقة، إلى جريمة الحصار المضروب على قطاع غزة، مطّردا منذ أشهر، إلى غير ذلك الكثير.

ترتبت على كل ذلك فجوة، ما انفكت آيلة إلى اتساع، في سياسة إسرائيل حيال المشكلة الفلسطينية (بعد أن انحصر ما كان يُعرف بـ»مشكلة الشرق الأوسط» فيها وفي شعبها لا يتعداهما)، أدى إلى مفارقة بين مستوى «العقيدة»، وهذه تقوم على افتراض «خطر وجودي» ماثل، عداءً مبرما، أساساً وتسويغاً لكل قرار، يستدعي الحرب ويستبعد السلام سمةً فيه ملازمة و«طبيعية»، وبين مستوى الممارسة الفعلية لتلك «العقيدة»، في حق شعب ومنظماته المناضلة وسلطته الوطنية، لا يمكنها بحال من الأحوال، أقله في حدود ما تتيحه موازين القوة وما هو معلوم من انخرامها، أن تنهض بوظيفة «الخطر الوجودي».

بل يمكننا القول، إن تناولنا الأمر من منظور أشمل لا يتوقف عند الشأن الفلسطيني، إن الدولة العبرية وجدت نفسها أمام عسر يكاد يبلغ مبلغ تربيع الدائرة: فهي قد ذللت العداء من حولها، أقله ما كان منه «وجوديّا»، بواسطة الردع واتفاقات السلام، وهي من وجه آخر، تخلفت عن تحيين «عقيدتها» المذكورة لتتماشى مع ما آل إليه النصاب الشرق أوسطي، وهو تخلف قد يجد بواعثه في استحالة، هي المتمثلة في تعذر اجتراح شرعية لفعل الاغتصاب المؤسس للدولة العبرية إلا باستحضار ذلك «الخطر الوجودي،» كما قد يجد بواعثه في تذرّع يمكّن إسرائيل من التحلل من كل عرف وقانون.

ويبدو أن إيران، وقد انتدبت نفسها عدواً وجودياً لـ«الكيان الصهيوني»، يمتلك في ذلك الوازع الايديولوجي والطموح النووي والامتدادات المقاتلة، قد وفرت على إسرائيل مشقّة تحيين تلك «العقيدة»، بأن مكّنت من دعمها بأسباب «المصداقية»، على نحو قد ينعش الايديولوجيا الصهيونية ويعود بها إلى عنفوانها البدئي، يمدها بإمكانية المطابقة، لأول مرة منذ عقود، بين ما تعتبره مبرر وجودها، درء خطر الإبادة على الشعب اليهودي، وبين أفعالها مهما بلغت شططاً وإجحافاً.

ولكن، وبصرف النظر عن ذلك كله وفضلا عنه، هل يمكن للمسعى النووي الإيراني أن يكون فاعلاً في تحرير فلسطين، على نحو جزئي أو كامل؟

ذلك ما سنحاول سبره في مناسبة مقبلة.

*كاتب تونسي