Ad

إن الإصلاح إن لم يأتِ تدّرجياً تراكمياً وضمن مسار طويل الأمد، فإنه قد يترك انعكاسات سلبية إذا ما جاء عاصفا ومدوّياً، وتجربة العراق المأساوية مثال صارخ لانفلات العنف وصعود النزعات الغرائزية والرغبات التفتيتية والتجزيئية والهويات المصغرة المذهبية والإثنية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

يمكن القول إن الإصلاح أصبح حاجة ماسة وضرورة ملّحة داخلية لقطاعات وفئات واسعة من المجتمع العربي قبل أن يكون وسيلة ضغط خارجية، رغم أن أحداث 11 سبتمبر الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة وراح ضحيتها نحو 3000 مدني بريء، قد دفعت المجتمع الدولي لرفع صوته بضرورة الإصلاح، الذي لم يعد ترفاً فكرياً لنخب فوقية ومعزولة.

لم يعد الصمت المريب إذن مبرراً من جانب المجتمع الدولي، خصوصاً بعد أن تضررت مصالحه وأصبح هو الآخر مهدداً بالإرهاب والإرهابيين، الذين كان العالم العربي يستغيث منهم ولا أحد يسمع ذلك، بل إن القوى المتنفذة لم تفرّق لأسباب مصلحية أنانية ضيقة بين المقاومة والإرهاب، وإذا بها هي الأخرى تكون «ضحية» لأعمال إرهابية منفلتة من عقالها، لذلك سارعت للتقدم بمشاريع وخطط للإصلاح أخذت فيها بنظر الاعتبار مصالحها وظروفها قبل مصالح الشعوب المتضررة من الإرهاب والهيمنة والاستبداد.

وبعض الحكومات التي صوّرت كل حديث عن الإصلاح وكأنه مؤامرة مريبة وتواطؤ مع الخارج المشبوه أخذت هي الأخرى بفعل الاستحقاق الدولي تدعو وتتبنى مسألة الإصلاح، خصوصاً إثر الضغوط التي تعرّضت لها على المستوى الخارجي ناهيكم عن أن بعضها أدرك ألا سبيل للّحاق بركب التقدم والحضارة من دون القيام بإصلاحات وتوسيع دائرة المشاركة والإقرار بالتعددية وإجراء انتخابات، وإلاّ فإنها ستكون في تعارض صارخ من الموجة العالمية الداعية للإصلاح.

وفي إطار هذا الخضمّ والحراك الاجتماعي والسياسي والإرهاصات الفكرية ثمة سؤال طالما ظلّ يتردد: هل من نموذج واحد للإصلاح؟ وكيف يمكن التوفيق بين الخصوصية القومية والثقافية وبين المعايير والاستحقاقات الدولية كقيم عامة للإصلاح والتحول الديمقراطي؟ كما شاعت مصطلحات من قبيل «الإصلاح القسري والإصلاح الطوعي»، و«الإصلاح الداخلي والإصلاح الخارجي» و«الإصلاح العنفي والإصلاح السلمي» ولكن التجربة خلال العقدين حددت بعض الملامح والاستنتاجات الأولية، تلك التي تقول إن الإصلاح إن لم يأتِ تدّرجياً تراكمياً وضمن مسار طويل الأمد، فإنه قد يترك انعكاسات سلبية إذا ما جاء عاصفا ومدوّياً، وتجربة العراق المأساوية مثال صارخ لانفلات العنف وصعود النزعات الغرائزية والرغبات التفتيتية والتجزيئية والهويات المصغرة المذهبية والإثنية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

يمكن القول إن الحكومات لوحدها لا يمكنها السير في طريق الإصلاح والتغيير الديمقراطي حتى إن رغبت في ذلك، وهذا ليس من باب التبرير فحسب، إذ هي بحاجة إلى شراكة حقيقية مع مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب والقوى السياسية والنقابات والاتحادات المهنية والاجتماعية التي ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها هي الأخرى، فلا بد للإصلاح أن يكون شاملاً: دستورياً وقانونياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وتربوياً ودينياً وغير ذلك. وهذه الشراكة ضرورية لاعتبارات موضوعية بين السلطات الحاكمة من جهة والمجتمع المدني وجميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين بمن فيهم رجال الأعمال.

الإصلاح بهذا المعنى هو مصلحة عليا لكل الشعب ولكل الأمة خصوصاً من خلال المشترك الإنساني وهو مسألة كونية وعالمية وسياق تاريخي شامل ولا يمكن فصل منطقة أو شعب أو جماعة بشرية منه. والعالم العربي لا يعيش في جزيرة معزولة، إنه جزء من عالم متشابك، مترابط، متفاعل بمصالح ومنافع مشتركة مع أمم وشعوب ودول وحضارات وثقافات متنوعة.

ولا يمكن في ظل التطور الدولي الراهن التملص من الإصلاح واحترام حقوق الإنسان بحجة «السيادة» أو «عدم التدخل بالشؤون الداخلية» وكذلك لا يمكن التعكز على الاحتلال والتهديد الخارجي للتضحية بالإصلاح والديمقراطية والتنمية، لأن ذلك سيؤدي إلى تسويغ الأنظمة المستبدّة والمعادية للديمقراطية، كما لا ينبغي بحجة الإصلاح والتغيير ارتهان الإرادة الوطنية بما يؤدي إلى الاستتباع وقبول الهيمنة وإخضاع المصالح الوطنية والقومية العليا للأجنبي.

إن الشروع بالإصلاح واعتماد الديمقراطية وآلياتها والتوّجه نحو التنمية المستدامة يضعف إلى حدود كبيرة من مبررات وفرص التداخل الخارجي، والعكس صحيح أيضاً، فكلما شُددت القبضة الحديدية وضُيّقت فُسح الحرية، أصبح هناك مبررات مشروعة أو غير مشروعة أو كلمات حق يراد بها باطل لفرض الهيمنة والتدخل الخارجي.

إن الحديث عن الإصلاح وكأنه فعل إرادة خارجية يعني في ما يعنيه الاستخفاف بالتضحيات الجسام والنضالات المتنوعة التي خاضتها قوى كانت تدعو للإصلاح ولسنوات طويلة سواء منذ نهاية القرن التاسع عشر أو مراحل ما بعد الاستقلالات خصوصا في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولا يمكن اختزال تاريخها الطويل واختطافه لمصلحة دعوات مريبة أو مشبوهة أو لا تريد خيراً لمستقبل شعوبنا وأمتنا.

وأود أن أقول إن الإصلاح سيكون أمراً مقبولاً ومرحباً به، إذا كان يستجيب لمصالح شعوبنا وأمتنا، خصوصاً إذا كان سلمياً وتدرجياً تراكمياً ويستهدف مصلحة الإنسان وحقوقه وحرياته، وبالتأكيد فإن هناك عوامل موضوعية وأخرى ذاتية لتحقيق الإصلاح، والعامل الذاتي سيستفيد من البيئة الدولية التي تسعى لتحقيق الإصلاح ويوظفها لمصلحته بدلا من محاولة توظيفه لمصلحتها أو لمصلحة قوى متنفذة فيها. ولا أظن أن أحداً سيعارض الإصلاح إلاّ الذين لا يؤمنون بضرورة الإصلاح ويبررون بقاء الأمور على حالها لأسباب ومصالح أنانية ضيقة.

الإصلاح والتغيير لا يمكن فصلهما عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهما ركنان لأي تغيير أو تحوّل وطني. والوطنية من دون ديمقراطية ستقود إلى الاستبداد بحسن نية أو من دونها، والديمقراطية من دون مراعاة الوطنية والمصالح العليا للشعب ستؤدي إلى الاستتباع وقبول الهيمنة الخارجية وسترتد دعوات الإصلاح إلى الوراء. وباختصار فالوطنية والديمقراطية بحاجة إلى فضاء إنساني رحب لاحترام حقوق الإنسان والأوطان.

الإصلاح «فرض عين وليس فرض كفاية» كما يقال وعلينا الشروع به وولوج دروبه الوعرة، لأنه سيقود إلى التطامن والسلام المجتمعي والتنمية ويضع الأسس السلمية للحكم الصالح والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وعكس ذلك هو الصحيح، فالإصرار على العزلة وعدم الاكتراث بالتطور الدولي وإبعاد المجتمعات وإغلاق الأوطان عن الإصلاح، الذي أصبح سمة دولية، سيقود مجتمعاتنا إلى المزيد من الفئوية والتشظي والطائفية والتعصب والغلو والاحتراب ويشجع على أعمال العنف والإرهاب، ويعاظم من العوامل الكابحة للتنمية ويزيد من التخلف، الذي سيكون بيئة مشجعة على الإرهاب.

* كاتب ومفكر عربي