انتخابات لبنان والتفجُّع على المستقلّين
لا تستلزم "التنازلات المؤلمة" التي يقدمها أطراف "14 آذار" لحلفائهم المسيحيين هذه الكمية من التفجع على المستقلين والتي صارت ترسم شرخاً بين مكونات التيار السيادي.
وبعيداً عن "الشراهة" التي أبدتها أطراف مسيحية في التفاوض على المقاعد، فإن التحالفات وليدة مصالح وتوازنات، والهدايا خارج قاموس السياسة العملي. لذا لا منّة لأحد على أحد ويستحسن أن يتوقف هذا النهج الاستعلائي. لو خُير اللبنانيون الذين يتم باسمهم الاستنكار لعدم إمكان تمثيلهم بـ "معتدلين"، حسب وصف وليد جنبلاط، لقالوا إنّ الاعتدال واجب على الجميع، وإذا كان مستقبل لبنان رهن تمثيل أولئك الذين يمدون جسوراً بين الطوائف والمذاهب فلماذا لا تسري القاعدة على الجميع؟ ولماذا لم يتوافق الراغبون في هذا الهدف النبيل على استبعاد كل الحزبيين بدءاً بأنفسهم ومَن يلوذ بهم من "صقور" المرشحين؟ افتتح وليد جنبلاط نفسه هذا المناخ، فهو مُحرج تجاه بعض مرشحيه، لكن الاعتذار منهم لم يكن يستدعي هذا الكم من التهكم. ولنكن واقعيين، فإن تبرم الزعيم الدرزي من ممثل "القوات" يجعله بلا حليف مسيحي حقيقي في الجبل، كون العونيين تخصصوا في شتمه وتحميله مسؤولية التهجير الجماعي وارتكابات صندوق المهجرين... قد لا يكون جنبلاط مرتاحاً عموماً في حلف "14 آذار" ويحضّر لفراق متدرج باشر التمهيد له باستعادة الخطاب العروبي ورفضه "الحياد" وبحديثه عن "المعتدلين" وكأن حلفاءه "متطرفون"، لكن توقيت الانسحاب أو إعادة التموضع مهم وخطير، إذ يفسَّر اليوم بمنزلة دعوة إلى "التشطيب" مع ما يعنيه ذلك من إخلال بالتزامات لا تنعكس في الصناديق فحسب، بل على مناخ التعايش الدرزي-المسيحي الذي يدرك جنبلاط مدى دقته. مؤسف طبعاً أن تتقلص مساحة تمثيل "المستقلين" في "14 آذار"، وأن يشعر الخارجون على أحزاب طوائفهم كالأيتام على موائد اللئام، خصوصاً أن بعض هؤلاء أدّى أدواراً بارزة في قيام انتفاضة الاستقلال، لكن للخيارات أثماناً في لبنان وفي تركيبة القوى السياسية التي يغلب عليها الطابع الطائفي. ولنعترف بعدم قدرة المستقلين على الانتظام في تيار يفترض تمثيلهم لما يسمّى بـ"الرأي العام" الذي صنع لحظة "14 آذار" الاستثنائية، ولندرك أن انتماء أفراد أو سياسيين إلى أحزاب من غير لونهم الطائفي فيه تضحية ومجال للعمل السياسي لا يترجم بالضرورة بمقعدٍ نيابي أو وزاري مادام لبنان في ظل نظام انتخابي متخلف بعيد عن العدالة أو التمثيل النسبي. تحسَّر وليد جنبلاط على رفاق له في "اللقاء الديمقراطي" عجز عن الاحتفاظ بهم في لوائحه بسبب ضرورات التحالف، لكنه أطلق عملياً كرة ثلج امتدت إلى "الشارع" الطرابلسي أو إلى بعض "النخب" الملتحقة بالركب الاستقلالي، فاستفاقت "الحركة الوطنية" على مناضليها القدامى الملتبسين، رغم أنهم من رموز الوصاية السورية في ذلك الحين، واستذكر بعض الذين حُشروا قسراً في "لبنان أولاً" فترة النضال "العروبي" مستنكرين "منح" مقعد للكتائب في "مدينة الرشيد". فلو أنهم أصروا على منح المقعد لـ"اليسار الديمقراطي" لفُهمت المسألة في إطار السعي المحمود إلى إبقاء التنوع غير الطائفي والتمسك بالطرف الوحيد العلماني في "14 آذار"، أما أنهم لم يسألوا عن سبب وجود مقعد ماروني في "الفيحاء" ويولولون لأنه ليس من حصة "رفيق" قديم، ففي ذلك استفاقة لصراخ الفطام المكبوت عن "عروبة" خَبرتها طرابلس تحديداً وأثمرت الوصاية والنظام الأمني، وعن حنين لهيمنة "وطنية" على الشارع السُني خطفت المدينة سنوات طويلة في الصراع الأهلي الإقليمي، وفيه نكوص عن إنجاز الوحدة الوطنية التي حققها دم رفيق الحريري وكرّسها نجله في خطابه الأخير. إنّها معركة انتخابات طبيعتها الاصطفاف والمساومات. وهي تحتمل عتباً ودلعاً لكنها لا تحتمل تلاعباً لا تحمد عقباه. كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء