كان الكتاب خير جليس للمتنبي، وسرج حصانه أعز مكان لديه، كما يقول في قصيدة له:

Ad

أعز مكان في الدنيا سرج سابح

وخير جليس في الزمان كتاب

والسرج ليس مكاناً، كما نعلم. والحصان وسيلة ارتحال وانتقال. وهذا يعني أن الشاعر عاش مغترباً ضائعاً في متاهة الوحدة، مرتحلاً من مكان إلى آخر لا وطن يشده ولا أصدقاء يخففون عنه، وهو يؤكد هذا كله في قصيدة آخرى يقول في مطلعها:

بِمَ التعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديم ولا كأس ولا سكن

متاهة العزلة تشير إذن إلى وجودٍ على حافة العدم؛ أي هامشي وهش ولا أثر أو فاعلية له. وهذا الوجود الناقص كان- ومازال- همّاً يطارد المبدعين ويمنحنا العديد من الأعمال الشعرية والروائية المشحونة بذلك النزوع الإنساني للتحرر من الوحدة والاندفاع إلى الآخر أو الاندماج فيه من أجل تفعيل المشاركة وتكريس الوجود.

والكاتب الفرنسي بيير بيجي يضعنا أمام هذا النزوع في روايته «فتاة من شارتر»، التي ترجمتها عشيرة كامل ونشرتها الهيئة العامة للكتاب «سلسلة الجوائز».

بلسان الراوي يقدم لنا الكاتب أبطال روايته وأحداثها التي تبدأ بحادث سير «في الخامسة مساء تحت مطر نوفمبر البارد، اندفعت بسرعة شاحنة صغيرة يقودها صاحب مكتبة يُدعى إتيان فولار، في الشارع لتصطدم بشدة ومباشرة بطفلة صغيرة... عنف الصدمة قذف إلى أعلى الجسد الصغير الذي برز من حيث لا يدري أحد». هذا الحادث يبدل تماماً حياة فولار صاحب المكتبة وبطل الرواية الذي ظن بعد نقل الطفلة إلى المستشفى أن رجال الشرطة سيقبضون عليه، لكنه فوجئ بالشرطي يقول له: «تستطيع أن تذهب... فالسيارة في حالة جيدة وتحليل الكحول سلبي، والطفلة كانت خائفة ولم ترَ شيئاً، وألقت بنفسها تحت عجلاتك، كما جاء في أقوال الشهود».

لكن فولار لا يستطيع العودة إلى مكتبته بشحنة الكتب ويفضل الزحف إلى خارج المدينة بسيارته وكتبه حيث الخلاء والتلال والجليد فقط، لكي يصرخ صرخة مخيفة... خشنة وبلا نهاية، صرخة لا تتحول أبداً إلى بكاء، فهو لا يعرف البكاء.

إنه يصرخ فقط حتى يهده التعب ويتحرر تماماً من حياته السابقة، ليبدأ في الصباح حياة جديدة محورها الطفلة الراقدة في المستشفى.

«عرفت فولار منذ زمن بعيد»، يقول الراوي مسترجعاً، «كنت في الفصل ضائعاً بين أربعين ولداً عندما فتح الباب ودخل المدير الذي صافح المدرس وواجهنا قائلاً، وهو يقدم لنا زميلنا الجديد، أفسحوا مكاناً للسيد فولار... كان فولار أكبر حجما من المدير وأكثر بدانة... أزحنا المقاعد فصار في وسطنا، فارضاً نفسه وشاغلاً بمفرده مكانين أو ثلاثة على الأقل»، بسبب حجمه وبدانته صار فولار منبوذاً وهدفاً للسخرية وتصاعد الإقصاء والإيذاء عندما اكتشف زملاؤه عشقه للقراءة وقدرته الفذة على التذكر.

كان يملك ذاكرة مدهشة تمكنه من استرجاع النص المطبوع واستعادة آلاف الكلمات... شكل الصفحة والطباعة ورائحة الورق والصمغ وحتى الفراغات وعلامات الوقوف.

العزلة تختار ضحاياها من بين المختلفين والمتميزين غالباً وفولار البدين والعملاق حافظ الكتب وعاشقها والذي لا أقارب له، كما يقول الراوي. ولأسباب عديدة أخرى كان مرشحاً للعزلة منذ البداية... «لم يكن شكله هو سبب قسوتنا الوحيد، كان فولار أيضاً يبدو محاطاً بهالة من الوحدة تنساب من عينيه الداكنتين وحركاته ومن بسمته المضيئة... لم يكن يبتسم لنا بل لشيء ما أكثر اتساعاً ..كانت ابتسامة العزلة».

بعد الصراخ في الخلاء، صارت الطفلة محور حياته الجديدة، فنسي الكتب والمكتبة واتجه إلى المستشفى ليجلس بجوار الطفلة التي فقدت القدرة على النطق والسير ولا يهتم بها أو يزورها إلا هو وأمها التي بسبب عملها في مدينة بعيدة لا تأتي إلا نادراً.

أطلعه الأطباء على الحالة الصحية للطفلة، قائلين إنها تذوي وبحاجة إلى مَن يحدثها ويشدها من متاهة العزلة، فحملها إلى التلال وحكى لها عشرات الكتب، لكن الصغيرة واصلت انسحابها من الحياة، لكي تنتهي الرواية ببطلنا الذي ينهي علاقته بالكتب ويبيع مكتبته ثم يتجه إلى التلال ليقف على حافة الجسر مطلقاً صيحته الهائلة «صيحة البجعة» قبل القفز في الفراغ.

لكل منا وحدته ومتاهة عزلته. والرواية تفتح عيوننا على صحارى العزلة ومتاهاتها التي تحيط بنا وتدفعنا إلى تأمل الحياة الحديثة واكتشاف مأساة الإنسان المعاصر الذي يعايش الأشباح والظلال من دون أن يدري عندما يحاصر نفسه بالورق والكتب وأنواع الشاشات كلها.

* كاتب وشاعر مصري