إذا انسحب الأميركيون!
حتى لا يبقى الذين ينظرون الى الأمور بعيون في أطرافها الكثير من الحـَوَل، يغمّسون خارج الصحن ويتحدثون عن الرئيس الأميركي «الجديد» باراك أوباما وكأنه عنترة بن شداد، وأنه سيمرّغ أنوف الإسرائيليين بالتراب وسيسحب القوات الأميركية من العراق ويترك نوري المالكي يبكي على الأطلال... فإنه لابد من التأكيد مرة أخرى -ومن جديد- ان هذا الرجل أنتُخب بما يشبه الإجماع كرئيس للولايات المتحدة حتى يحافظ على المصالح الأميركية وينقذ أميركا مــــن «الوَرْطات» الكثيرة التي سيتركها وراءه الرئيس «المغادر» جورج بوش، الذي سيخرج من البيت الأبيض في العشرين من يناير المقبل. كان شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي قد نصح الأميركيين قبل إسقاطه بنحو أربعة أعوام، بأن اتساع انتشارهم أصبح يشكل عبئاً عليهم وعلى حلفائهم، وهو قال لهم ان كل الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ من الإمبراطورية الفارسية الى الإمبراطورية الرومانية الى الإمبراطورية العثمانية، قد قضى عليها انتشارها، وأنه إذا أرادت أميركا ان تبقى على رأس قيادة العالم فإنه عليها أن تضبط هذا الانتشار، إن هي تخشى الانكفاء والاختباء مجدداً وراء المحيطات، إن هي حاولت تقليصه.
إن أوباما، الذي جاء الى هذا الموقع الخطير والمهم بعد ان حفظ درسه جيداً، يعرف هذا ويدركه وهو يعرف ان الانسحاب الكيفي من أي موقع من مواقع «الانتشار» ومن بينها العراق غير وارد على الإطلاق، لذلك فإنه تحدث عن سحْبٍ تدريجي لقوات بلاده من بلاد الرافدين، والمعروف أن الانسحاب التدريجي بتقاليد الجيوش الكبيرة وأعرافها يتطلب فترة طويلة ربما تصل الى عشرة أعوام وأكثر. هناك في أميركا مفكرون واستراتيجيون عظام وكبار يعرفون المنطقة أكثر مما يعرفها أهلها، وهم يعرفون ان الطابع الأساسي لصراعات هذه المنطقة وفي مقدمها الصراع الإيراني–الإسرائيلي ليس «إيديولوجيا» وإنما «جيوسياسياً»، والمؤكد ان هؤلاء حذروا الرئيس الأميركي «الجديد» مــن مغبة التسرع وسحب القوات الأميركية قبل ترتيب الأمــور ترتيباً نهائياً، بحيث لا تقفز إيران التي لها رؤوس جسور كثيرة في هذا البلد، لتملأ الفراغ وتـُحدث خللاً كبيراً في معادلة الشرق «الجيوبوليتيكية» سينقل الأوضاع المتوترة في الإقليم كله الى واقع أكثر خطورة. لاشك في أن الأميركيين، الذين جاؤوا الى هذه المنطقة في إطار استراتيجية تضع في مقدم اهتمامها الواقع الجيوبوليتيكي في إقليم الشرق الأوسط كله، يعرفون ان انسحابهم الذي يجري الحديث عنه، سواءً جاء سريعاً ومفاجئاً أو تدريجياً، سيؤدي الى خلل في هذا الإقليم المتوتر، ليس منذ الحرب الأخيرة على العراق، وإنما على مدى أعوام ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو خلل لن يقتصر على الجانب الإيديولوجي فقط بل سيتعداه الى الجانب «الجيوسياسي»، وهذا معناه أن الحرب التي طال انتظارها بين إسرائيل وإيران ستندلع على الفور، فإسرائيل لا يمكن ان تسمح للإيرانيين بالتمدد «الجيوبوليتيكي»، خصوصاً أن امتلاكهم السلاح النووي بات في مراحله الأخيرة. وهنا فإن ما يجب ان يُفهم جيداً هو ان بعض الذين يرفضون توقيع الاتفاقية الأمنية قيد البحث بين بغداد وواشنطن، إما أنهم يريدون ان تتمدد إيران «جيوبوليتيكياً» لأنهم يعتبرون أنفسهم جزءاً من هذه المعادلة، أو أنهم لا يدركون أبعاد وقوع العراق في الفراغ وأوضاعه هي هذه الأوضاع الخطيرة والمأساوية.* كاتب وسياسي أردني