Ad

إنها إساءة لسورية أن يجري تصوير تحركاتها «التكتيكية»، التي هي ضرورية ولازمة ويجب دعمها، على أنها انتصارات مبهرة، وعلى أنها هزيمة لـ«العدو» ستتبعها هزائم كثيرة.

ليس من مصلحة سورية ولا إيران أن يجري تصوير هذه التحركات «التكتيكية» التي تقوم بها دمشق وطهران إزاء إسرائيل والولايات المتحدة على أنها «فتح الفتوح»، وأنها انتصارات في زمن الهزائم. فالأمور في حقيقتها هي ليست كذلك، والذي يقدم تنازلات «مجانية»، هو الذي كان يـُجرِّم ويحُرِّم أي مفاوضات مع الإسرائيليين سواء كانت مباشرة أم «غير مباشرة»، وأي اقتراب من الأميركيين سواء كان رسمياً أم غير رسمي.

لا اعتراض إطلاقاً على أن تستبدل سورية مسارها السابق بمسار جديد، فالعودة إلى المفاوضات التي توقفت قبل ثمانية أعوام، حتى من دون «وديعة رابين»، وحتى بالتخلي عن شرط استئنافها من حيث انتهت، هي عين العقل. فحكاية «الممانعة» وفسطاطها حكاية «فارطة». والأشقاء السوريون كانوا أول الذاهبين إلى مدريد، وكانوا أول الذاهبين إلى محادثات جنيف الشهيرة، التي ذهبوا إليها بينما كان معظم العرب مازال يراهن على شعار: «أن المقاومة وجدت لتبقى وأن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة»!

ليس عيباً أن تفاوض سورية إسرائيل بصورة «غير مباشرة» وبصورة مباشرة، وأن تقترب من الولايات المتحدة وتتقرب إليها، فهي صاحبة حقٍ. ومن حقها أيضاً أن تطرق الأبواب كلها، وأن تلجأ إلى الوسائل كلها من أجل استعادة هضبة الجولان التي مضى على احتلالها أكثر من أربعين عاماً واحتلت عندما كان الراحل حافظ الأسد، رحمه الله، وزيراً للدفاع، وكان صاحب قــرار حتى قبل «الحركة التصحيحية» والانقلاب على ما سُمي بعهد «نور الدين الأتاسي- صلاح جديد».

إن من حق سورية أن تتحرك في الاتجاهات كلها لتتخلص من حالة «اللاحرب

واللاسلام» القاتلة، لكن يجب أن يدرك المطبلون والمزمرون أن تصوير هذه التحركات «التكتيكية»، التي هي ضرورية وكان يجب ألا تؤجل حتى الآن، على أنها انتصارات مدوية، هو ليس في مصلحة الرئيس بشار الأسد ونظامه إذْ يتعين انتظار النتائج.

فالعمل السياسي في هذه المنطقة كالسير في الرمال المتحركة، فهو غير مضمون وعواقبه قد تأتي عكسية ومخيبة للآمال!

كان هناك تحالف أطلق عليه أصحابه تحالف «فسطاط الممانعة والمقاومة»، وكان الذين «يدربكون» الآن للهرولة في اتجاه الإسرائيليين والأميركيين، يلهبون أكفهم بالتصفيق لهذا التحالف الذي كان يعتبر التفاوض مع إسرائيل خيانة وتفريطاً، والتـَّقرُّب من أميركا زندقة سياسية ما بعدها ولا قبلها زندقة سياسية... والآن ها هي هذه الهرولة، التي هي بالتأكيد ضرورية، تصبح بالنسبة الى عازفي الربابة هؤلاء، هجوماً سلاميَّاً وانتصاراً يستحق الإشادة والتقدير.

لاشيء تغير حتى الآن... فالأميركيون مازالوا يتمسكون بشروطهم؛ التخلي عن دعم الإرهاب والإصلاح السياسي والاقتصادي، والابتعاد عن إيران وفك عرى التحالف معها. والإسرائيليون مازالوا يرفضون الاعتراف بـ«وديعة رابين»، ومازالوا يرفضون استئناف المفاوضات من حيث انتهت قبل ثمانية أعوام، ومازالوا يرفضون الانسحاب حتى حدود الرابع من يونيو عام 1967، ولذلك فإنها إساءة لسورية أن يجري تصوير تحركاتها «التكتيكية»، التي هي ضرورية ولازمة ويجب دعمها، على أنها انتصارات مبهرة، وعلى أنها هزيمة لـ«العدو» ستتبعها هزائم كثيرة.

أغلب الظن أن دمشق غير مرتاحة لكل هذا التهليل والتطبيل الفارغ، فالطريق لايزال في بدايته وقد تنقلب الأمور رأساً على عقب في أي لحظة... ثم أن هذه المفاوضات إن هي انتهت إلى إبرام الصفقة المنتظرة، فإنها ستكون بوابة لتقديم الأشقاء السوريين تنازلات كثيرة؛ إن بالنسبة الى التطبيع، وإن بالنسبة الى المياه ومصادرها، وإن بالنسبة الى الانسحاب وحدوده، وإن بالنسبة الى وضعية جبل الشيخ وأجهزة المراقبة المركزة فوقه، وإن بالنسبة الى طبيعة النظام في المرحلة المقبلة... وهذا يقتضي عدم التحليق عالياً في هذه المرحلة حتى لا ينظر الشعب السوري إلى النتائج وما قد يتحقق، على أنها مخيبة للآمال!

* كاتب وسياسي أردني