عقل غير هادئ
كتابة السيرة الذاتية، أو ما يعرف بأدب السيرة الذاتية، غوص في بحر عميق وخطير ومليء بالتيارات العاتية، كونه يعتمد على جرأة الكاتب في التخلي عن ضعفه البشري الغريزي، والتصدي لرصد وتسجيل وكشف أدق خلجات نفسه، وأن يكون صادقاً مع نفسه ومحيطه، وهذا بدوره خاضع لشجاعة نادرة، قلما تتوافر للإنسان العادي، مثلما يتطلب بالضرورة سقفاً عالياً من الحرية في المجتمع، والممارسة الديمقراطية، بما يتيح للكاتب قول الحقيقة العارية، من دون التفكير بخوف ينتظره مع كل جملة يخطّها.
قليلة جداً -إن لم تكُن نادرة- كتب السيرة الذاتية، بمعناها الصرف، التي صدرت باللغة العربية، وأنا هنا أعني الكتب الصادقة، المغموسة برعشة الحياة، التي تكشف حياة الإنسان في محطات أوجاعها وتعاستها، والتي تجرّأ أصحابها على قول حقيقة تجاربهم الشخصية وميولهم ولحظات ضعفهم وقوتهم، وتلك القرارات المجنونة التي اتخذوها تحت هاجس عابر تملّكهم في لحظة ما. وأظن أن كتب السيرة الآسرة بصدقها، لا تمت بصلة إلى ما يسمى بكتب السيرة الواسعة الانتشار، التي تبدأ بالصورة الشخصية المرسومة على الغلاف، وتنتهي باختلاق أكاذيب حياة مليئة بالنجاحات والمواقف النبيلة، وبما يضع الشخصية، صاحبة السيرة، في مصاف العظماء، ويبعدها تماماً عن حياة البشر المعجونة بالمعاناة والبسيط واليومي والمخجل. قد تأخذ كتب السيرة صورة الرواية أو القصص القصيرة، وقد تأتي على صيغة كتاب توثيقي يجسد مسيرة صاحبه، لكن أياً كان شكلها، فإن شرطها الأساسي يتحقق من قدرتها على قول الحقيقة الإنسانية العارية، بشكل مباشر بعيد عن الكذب والتوْرية والتزويق. في الأسبوع الماضي، تلقيت من صديقة عزيزة كتاب «عقل غير هادئ- UNQUIET MIND» لمؤلفته «كاي ردفيلد جاميسون - KAY REDFIELD JAMISON»، بترجمة حمد العيسى، ولأنه سبق لي أن قرأت أكثر من وجهة نظر عن الكتاب، فلقد كسرت جدول قراءاتي، وأسرعت إلى بدء رحلتي مع «العقل غير الهادئ». الكتاب يدور حول التجربة الشخصية للدكتورة كاي ردفيلد جاميسون، في رحلة عمرها وشقائها مع مرض «ذهان الهوس الاكتئابي». ولأن الكاتبة تتوافر على ثقافة عالية، في الأدب والموسيقى والطب والفلسفة، وأخيراً موقف نبيل وإنساني من الحياة، فلقد جاء الكتاب ليقدم للقارئ رحلة حياة فيها من الصدق والعمق والجرأة ما يدعو إلى الدهشة والتأمل، ويدعو في جانب آخر إلى الوقوف أمام الحياة الإنسانية بوصفها مجموعة لحظات تتأرجح بين الفرح والحزن، وبين الصحة والاعتلال وبين الرضا والسخط. وحياة أيٍّ منا لا تعدو أن تكون كذلك بدرجة أو بأخرى. إن تعريف مرض «ذهان الهوس الاكتئابي» البسيط، هو اضطراب عصبي يصيب الإنسان فيأخذه تارة إلى الإسراف في الإقبال على الحياة، ومباهجها بشكل لافت، بحيث يواصل اندفاعه، ربما المتهور، ليل نهار، ثم لا تلبث هذه الموجة/الهوس أن تنحصر بعد حين، ليسقط المريض في بحر الخمود والعزوف عن الحياة، ويصبح أسير اكتئاب أسود يجثم على قلبه، وقد يقوده إلى الانتحار. ربما يستحق بوح أي شخص بتجربته مع هذه المرض أن ننظر إليه، لكن أن تكون المصابة هي دكتور في جامعة، وأن تكون معالجة نفسانية، وأن تكون في مواجهة مع مرضى يقصدونها في عيادتها طلباً لنصحها، فذلك يجعل من بوح الدكتورة جاميسون جرأة ما بعدها جرأة، خصوصا إذا جاء هذا البوح شفيفاً وبلغة أدبية عالية السوية. أضم صوتي إلى صوت الكاتبة باسمة العنزي، في أن كتاب «عقل غير هادئ» يستحق القراءة بجدارة.