إن الخلافات بين أبناء الصف الثاني داخل الأسرة سوف تلقي بظلالها على الواقع السياسي العام أياً كان رئيس الحكومة القادم، وسوف يُقسم معه الشارع والتيارات السياسية وحتى مجلس الأمة، فما الجدوى من الاعتزال السياسي في مثل هذه الحال؟!
دعوة البعض إلى اعتزال بعض الأقطاب السياسية مثل سمو رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلس الأمة والنائب المخضرم أحمد السعدون كمقدمة للاستقرار السياسي تعبر عن رؤية سطحية وضحلة من حيث القدرة على التحليل، وتنم عن قصور واضح في فهم الواقع السياسي الكويتي.فالاعتزال السياسي في ظل الأنظمة الديمقراطية له قواعده ومعاييره على صعيد المؤسسات السياسية تارة وعلى صعيد الذوق الشعبي العام تارة أخرى، وجميع الديمقراطيات في العالم باستثناء الكويت تمزج بين عناصر الخبرة وتجديد الدماء في ترتيب رموزها السياسية بحسب مقتضيات المرحلة التي تعيشها الدولة واتجاهات الرأي العام بالنسبة للمواضيع الساخنة وذات الأولوية بالنسبة للمجتمع ككل.من جهة أخرى، فإن التنافس لإبراز رجال المرحلة يشهد أكثر من مرحلة في معظم الأحيان؛ إما عن طريق الانتخابات الداخلية عند الأحزاب السياسية، وإما من خلال انتخابات تمهيدية على المستوى الوطني قبيل الانتخابات العامة، وفي الكثير من الأحيان يتم الاستعانة باستطلاعات الرأي العلمية والموضوعية لقياس مؤشرات القبول الجماهيري للرموز السياسية.ولكن في الكويت، وكما الدعوة الأخيرة للاعتزال السياسي، فإن الأطروحات الكبرى التي تحدد معالم المستقبل السياسي للدولة برمتها يتم إعلانها إما في ديوانية أثناء زيارة عابرة، وإما من خلال اتصال هاتفي من أحد الصحافيين وتتحول بقدرة قادر إلى أجندة سياسية يدلي الجميع بدلوهم من خلال قناعاتهم الشخصية وعلاقاتهم بهذا الرمز أو ذاك.وإذا افترضنا أن اعتزال بعض الأقطاب قد تحقق، وهذا ما سوف تكون عليه الحال عاجلا أم آجلا، فهل سنشهد آنذاك استقراراً سياسياً يمكننا كدولة من إعادة بنيتها الاقتصادية والاجتماعية أو رسم خريطتها السياسية؟ وهل ستكون الرموز الجديدة الشبابية أقل حدة في طرحها وتسويق أفكارها خصوصا مع سعيها لملء فراغ سياسي كبير؟ النظرة العامة التي نشهدها منذ سنوات ما بعد التحرير لا تعكس هذا الاتجاه، ومن دون التطرق إلى أسماء محددة لنستعرض الجيل السياسي منذ مجلس 1992 والشخصيات التي ظهرت على المسرح العام، نجد أن هذه المسيرة لم تخلُ من أصوات ذات النبرة الحادة والفكر والطرح القويين ومعظم أصحابها من العناصر الشبابية، وعادة ما ترتفع أصوات النقد والتمهيد السياسي مع تزايد صوت الفساد وتردي الخدمات، ومن المؤكد أن تستمر مثل هذه المساجلات طالما بقيت المشاكل نفسها عالقة، وطالما جاءت تشكيلة الحكومات متناقضة مع نتائج الانتخابات العامة لمجلس الأمة.وحتى لا نبتعد كثيراً عن لب موضوع الاعتزال السياسي، لنراجع مواقف وتصريحات رموز الصف الثاني إن صح التعبير، فنجد أن تصريحات النواب الجدد في كثير من الأحيان أشد وأقسى من المخضرمين، وقرارات بعض الوزراء الجدد أسوأ وأكثر إثارة للأزمات من الوزراء المخضرمين وحتى رئيس الحكومة نفسه، كما أن النقد اللاذع لكتّاب الزوايا والمحررين ورؤساء تحرير الصحف يفوق الكثير من النواب مجتمعين، وهذه صور وتعابير حقيقية للديمقراطية التي لا يتحملها بعضهم ولا يطيق أن يعيش في أجوائها.كما أن الخلافات بين أبناء الصف الثاني داخل الأسرة سوف تلقي بظلالها على الواقع السياسي العام أياً كان رئيس الحكومة القادم، وسوف يُقسم معه الشارع والتيارات السياسية وحتى مجلس الأمة، فما الجدوى من الاعتزال السياسي في مثل هذه الحال؟!نعم الأوضاع السياسية بحاجة إلى تشاور بين الخصوم قبل الكتل والمجاميع الحزبية والبرلمانية والسياسية، والأجواء العامة بالفعل يشوبها انعدام الثقة والتباين الشاسع في الرؤى والمواقف وبين الصغار أكثر من الكبار، وإصلاح مثل هذه المشاكل لا تكون فقط في الاعتزال والتنحي، ولكن في المصارحة والمكاشفة وأمام هيئة عامة رقابية هي الشعب الكويتي، والرأي الغالب يجب أن يكون للمنطق والمبدأ الحق والاقتناع وليس العناد.وأولى هذه الخطوات التصحيحية يجب أن يكون في احترام إرادة الأمة وهيبة المجلس، فالكويت هي الدولة اليتيمة في العالم التي تكون فيها المعارضة أغلبية، ولكن أغلبية مهمشة لا تقرر ولا تشارك في الحكومة، فالكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي يُدعى فيها إما لحل المجلس بشكل غير دستوري وإما يُهدّد بحل البرلمان وهو في إجازته الصيفية ولم يمر على انتخابه بضعة أسابيع!
مقالات
الاعتزال السياسي!
30-09-2008