هناك كتيب بحجم الكف، له غلاف سميك وصفحات سميكة لا تتعدى الستين، أعده الأسترالي المقيم في فرنسا «جيف فليشر» من أجل غاية واحدة لا غير: هي أن يكون دليلا هاديا لإخوانه في الإنسانية لبلوغ الثراء، لعلمه المسبق بأن هؤلاء الإخوان الذين يتخطون الستة مليارات عددا، هم جميعا، وبمصادفة كونية عجيبة، يشتركون في رغبة الثراء هذه!

Ad

ولأنه طيب القلب جداً، فقد آثر أن يسعفهم بكتيب الجيب هذا، ساكبا فيه عصارة تجربته الثمينة بشكل مختصر ومفيد، ولكي يكون عمله حميماً فقد آثر أيضاً أن تكون صفحاته كلها مكتوبة ومرسومة بيده الكريمة، بما في ذلك الصفحة المعتادة التي تحتوي اسم دار «بلومزبيري» الني نشرته، وعنوانها، وتاريخ الإصدار والإيداع وديباجة حقوق الملكية!

هذا الكتيب عنوانه «كيف تبلغ الثراء؟»، غير أن الصورة المرسومة تحت العنوان بالأحمر تمثل الشكل التقليدي للشيطان، بقرنيه وضحكته الخبيثة، ولسنا نعلم على وجه الدقة ما إذا كان يهيئنا مقدماً لملاقاة مكره ومكر صاحبه ذي القرنين، أم أنه يخوف الشيطان منا نحن الكثرة الكاثرة المستعدة لمنافسته من أجل بلوغ ما لا يمكن بلوغه ببساطة!

الرسوم المصاحبة لسطور المحسن الكبير «فليشر» تحتاج منا إلى استخدام كل ما في طاقتنا من روح الفكاهة، لكي نفهم أن تعبير الكلمات يتناقض كلياً مع تعبير الرسوم، لأن التعابير فيها تأخذ طابع اللعب على معاني الكلمات، لكننا على كل حال سنحتاج إلى روح الفكاهة هذه من أجل التخفيف من حدة الصدمات، إذا أخذنا الأمور بجدية ونحن لا شك سنأخذها بجدية... فمن هذا الذي يعتبر البحث عن الثروة مزاحا؟!

بطل الكتيب المرسوم كاريكاتيرياً يظهر في الصفحة الأولى جاثيا على ركبتيه ورافعا كفيه إلى السماء ونفهم من هذا أنه يصلي بحرارة قبل بدء الرحلة، ولأنه في الواقع نموذج لكل واحد منا، فليس لنا إلا أن نرتدي ثيابه، ونبتهل مثله، ثم ندخل لمواجهة حظوظنا:

في البدء يطلب الدليل منك أن تبدأ من الصفر، بأن تحاول العيش بأكثر الظروف تواضعا وتقديراً، وأن تمارس أعمالا شاقة بلياقة واستقامة تامتين (الرسم فوق هذا الكلام يصورك وأنت تجر عربة ضخمة جدا كثيرة الأحمال... مما لا تقدر على جرها عشرة أفيال)!

ثم إنه يدعوك إلى تنظيف ظهر سفينة بيدك، وإلى تلوين سراويل دُمى خزفية لا عدد لها، ثم خياطة رقع لا حصر لها من بقايا الأسمال بيدك المجردة، ثم أن تدفع نفسك في العمل إلى ما وراء حدود طاقة احتمال البشر، وبعد هذا يطلب منك أن تدرك خطأك «صورتك فوق هذا الكلام تبين أنك راقد في المستشفى، بساق مجبرة وذراع مربوطة بكيس دم»!

عليك الآن أن تبني لنفسك شخصية جديدة لائقة: أن تنتمي مثلا، إلى العائلة الحاكمة في هولندا، أن تقتني عددا كبيرا من السيارات، أن تتكلف طريقة مميزة في الكلام أو اللبس، والأمر ببساطة لا يتطلب سوى أن تجد في نفسك الدافع والهمة!

أو حاوِلْ أن تسعى إلى الزواج من سيدة ثرية جدا، استعرض سحرك وفتنتك، العب «البولو» حتى الفجر ثم ستجد بعد ذلك أن أباها اللورد «فوتستول» قد أطلق كلابه عليك! وماذا بعد؟ دعك من تلك الزيجة الخطرة، فإن دليلك قد وجد لك طريقة أكثر أمناً لبلوغ الثروة، فها هي صورتك وأنت تقفز في الهواء قفزة جنونية تطير لها قبعتك، وتوضح ما هو مكتوب تحتها: تفوز بما يزيد على «ديشليون» جنيه إسترليني... وإذا لم تكن قد سمعت من قبل بهذا الرقم الغريب فإنه يعني ألف تريليون!

كيف فزت؟ بالقمار؟ باليانصيب؟ لا نعلم، ولا أنت تعلم، لكن الدنيا حظوظ كما يقال! في الصفحة التالية مباشرة سنراك قد بددت المبلغ الذي فزت به بالبذخ المفرط وبالمشاريع الغبية الخاسرة، ثم ستجد عند بابك أطناناً من الرسائل التي يطالبك أصحابها بأثمان أشياء لا تتذكرها ولا تدري متى اشتريتها أو أين وضعتها أو من بحق الجحيم قد... لا داعي للاسترسال لأن صورتك اللاحقة تقول إنك قد ضيعت «الحبكة»! كيف ستواصل رحلة البحث؟ في الصفحة التالية ستفتح الباب لتجد وراءه عملاقين تقدح نظراتهما بكل شر الدنيا، وللمناسبة فإن السطور تحت صورتك لا تحمل كلاماً كثيراً، بل جملة مختصرة جداً تفيد التالي: «أنت مدين بمبلغ» لكنّ وراء هذه الجملة رقما مرعبا، وهو لسوء الحظ عبارة عن ستة وستين صفراً بعد رقم «واحد» بالدولار! لا تجهد عقلك فلم يخترع بعد، ولن يخترع على الإطلاق أي اسم لهذا الرقم اللئيم، سمّه آلاف أو ملايين الديشليونات، ثمّ اهرب بأسرع ما تستطيع.

ها أنت تهرب إلى خارج البلاد، وها أنت تغيّر هويتك وشكلك، ثمّ ها هو الحظّ يبتسم لك من جديد، إذ تعثر على مبلغ كبير من المال... صحيح أنه ليس معادلاً لما أنت مدين به، لكنه ولله الحمد أقلّ من آلاف الديشليونات!

صورتك تخبرنا كيف عثرت على هذا المبلغ، فأنت فيها تبدو مرتدياً قناعاً، وتمسك بإحدى يديك قناعاً حديدياً، وبالأخرى مشعلاً خاصّاً بتذويب الفولاذ، وأمامك خزانة بنك ضخمة جداً، وحضرتك منهمك بفتحها!

عندئذ ستحيا حياة الملوك، لكن وا أسفاه، سوف تتعرّض لسرقة كبرى، تصبح بعدها مستعداً حتّى لبيع أمّك، وستنتهي إلى بيع روحك للشيطان، وهو سيشتريها، لكنّه سيماطلك في دفع الثمن، ولأنه «شيطان» فهو في النهاية سيمتنع عن الدفع!

لكنّك، لحسن الحظ، ستخرج من بؤسك بمصادفة عجيبة... سترث فجأة ملايين الديشليونات! وفي الرسم التوضيحي فوق خبر الميراث سنراك وأنت عاكف على خنق قريبك الثريّ بالمخدّة!

لن تهنأ بالميراث طويلاً، ففي الصفحة التالية ستفقده، بمعاملات المصارف أو بالمضاربة أو بالضرائب، أو غير ذلك من عروض الإفقار المتوافرة لأمثالك على الدوام.

ليس أمامك إلا أن تعلن إفلاسك، وتمضي قدما إلى السجن لسداد دينك نحو المجتمع، وبعد أن تخرج من السجن ستصرف ما تبقّى من وقتك غير الثمين في ترف «التأمّل»!

لكن... مهلاً، إن صورتك ما قبل الأخيرة تظهرك وأنت تحفر في الحقل بحثاً عن البطاطا، ولأن العجائب لا تنتهي، فإنك ستعثر على مقبرة من مخلفات الحضارات البائدة، وهي لحسن المصادفات مكتظة بكميات من الذهب تكفي لإعالة سكان الأرض جميعا!

إنها لمفاجأة مفرحة إلى حد القتل... سترتفع بك كائنات متناهية الصغر إلى ما وراء السحاب، وهناك ستعلن ملكا في الجنة، حيث ستأكل أسماكا طازجة، وكعكا بالشكولاتة، وستحتسي من الخمور بقدر ما تستطيع أو ما لا تستطيع، وعندئذ ستغرق ويغرق كلّ شيء من حولك في الظلام المطلق!

وهكذا فإن صاحبنا الطيّب «جيف فليشر» قد أعطانا من خلال حبكته المرتبكة خلاصة مفادها أن جني الثروات الفاحشة لا يتأتى إلا من المصادر التالية: اليانصيب أو المقامرة أو السرقة أو الميراث أو العثور على الكنوز، وأنّ هذه الثروات الخيالية سرعان ما يكون مآلها إلى النفاذ بشكل أسرع وأسهل من سرعة وسهولة الحصول عليها.

كان كتيّب فليشر قد صدر قبل سبعة أعوام، فهل كان يتنبأ، بصورة أو بأخرى، بمآل الوضع الاقتصادي العالمي اليوم؟ لا نعلم هذا، لكنّ ما نعلمه تماماً هو أنّ المصارف الدولية وأسواق المضاربات، والشركات العابرة للقارات، وجميع بنات أسرة «العولمة» الكريمة، إنما تمضي في تحصيل الثروات وإدارتها على نهج بطل الكتيب، ثم إنها لا تصل في نهاية المطاف إلا إلى هوّة الإفلاس الذريع.

الطريف أنّ ثمن كتيب فليشر، على رغم كثافته المضحكة، هو أحد عشر دولاراً بالتمام، وعليه فإننا لابدّ أن نتساءل: لماذا لم ينصحنا، ضمن كل نصائحه، باتباع طريقته في تأليف الهلوسات، من أجل الفوز بثروة معقولة؟!

أعتقد أن طيبة قلبه الغامرة قد أبت عليه أن يدخلنا في زمرة المتواضعين من أمثاله، وأنه لشدّة نكرانه لذاته قد أراد أن نحظى، من دونه، بالثروات غير المعقولة. شكر الله سعيه!

*شاعر عراقي

- تنشر بالاتفاق مع جريدة «الراية» القطرية