ستون النكبة : كانط ضد شتاينماير
قبل أيام كتب السيد فرانك وولتر شتاينماير، وزير خارجية ألمانيا، مقالاً في صحيفة «يديعوت» الإسرائيلية نشر في موقعها العربي (يديعوت 6/5/2008) بعنوان «صداقتكم هدية لنا» يهنئ فيها بـ«يوم الاستقلال» الإسرائيلي، ويقول: «أحد الدروس التي ينبغي أن نتعلمها من الماضي الفظيع هو أن أحداً في العالم ليس مخولاً بأن يشكك بحق وجود دولة إسرائيل. إذا ما تجرأ أحد ما على عمل ذلك، فنحن سنقف بتصميم ضده». ولا تترك مقالة السيد شتاينماير لبساً في أن «الماضي الفظيع» هو ما فعله النازيون من أسلافه باليهود. لكن من يحتمل أن يكون «أحداً في العالم» قد «يشكك بحق وجود دولة إسرائيل»؟ البرازيليون مثلاً؟ الصينيون؟ الأوغنديون الذين كانت بلادهم بديلاً محتملاً عن فلسطين؟ أم لعلهم الألمان أنفسهم؟ أو ربما الأميركيون، أو البريطانيون، أو الفرنسيون، أو الروس؟ والحال لم نسمع يوماً أن أياً من هذه الأمم شككت «بحق وجود دولة إسرائيل». هناك مشككون في الواقع، لكن يصادف أنهم هم من دفعوا ثمن حق الوجود ذاك. يصادف أيضا أن من يعد بأن بلاده «ستقف بتصميم» ضد من يشكك في ذاك «الحق» هو وزير خارجية البلد ذي «الماضي الفظيع». يا لها من مصادفات! فلنحاول أن نفهم: وزير خارجية بلد نظم أسلافه القريبون صناعة قتل أجهزت على 6 ملايين يهودي يتوعد من دفعوا ثمن جريمة بلاده (فشردوا من ديارهم وهدمت قراهم وبلداتهم، وشكك بوجودهم ذاته وليس بحقهم في الوجود فقط) بأنه «سيقف ضدهم بتصميم» إن شككوا بشرعية هذا الترتيب! هل هذا عجيب؟ أعجب منه النبرة الأخلاقية التي ينتحلها السيد شتاينماير، يكاد لسان حاله يقول أنتم أيها الفلسطينيون مطالبون بدفع ثمن جريمتنا، فإن لم تفعلوا فأنتم غير أخلاقيين، هل هذا أخلاقي؟ أليس بالأحرى أقرب إلى ما فعله النازيون؟ وهل تُكفّر ألمانيا عن ذنبها الفظيع حين تحتفي بذكرى استقلال إسرائيل وتنسى النكبة؟
ترى، لو كانت إسرائيل في بافاريا، أكان السيد الوزير «سيقف بالتصميم» نفسه ضد «المشككين»؟ والحال، فقط لو كانت إسرائيل مقامة على أرض ألمانية لكان ذلك تكفيراً حقيقياً عن الجريمة النازية. ولو أقيمت في أرض أوروبية، على نحو ما كان اقترح أرنولد توينبي، لكانت أخلاقية الوزير الألماني (اليهودية المسيحية ربما) أقل رياء. أما أن تكون مقامة على أرض الفلسطينيين العرب وأن يكون الفلسطينيون والعرب هم المتشككون في «حق وجود إسرائيل» على حسابهم، فإن أخلاقية الوزير تتكشف مرائية على أقصى حد. وأخلاقية كهذه لا يبدو أنها تدين النازية لأنها قتلت أبرياء، بل فقط لأن قتلاها من اليهود، فهي لا تحمل أي ضمانة بأن تقف ضد قتل آخرين، الفلسطينيين مثلاً. وهي، تالياً، ليست على قطيعة أخلاقية جذرية مع النازية. وإذ نقول ذلك لسنا نستسلم لشعور بالسخط لابد أن يتملكنا حيال هذه الخسة الخارقة، قبل شهر واحد فقط أمكن لشمعون بيريز، رئيس إسرائيل وأبو القنبلة النووية الإسرائيلية وواحد من أقدم سياسييها وأكثرهم خبرة، أمكن له أن يقول: «لقد سعينا حقاً للانتقام مما فعلته النازية باليهود وكان ثأرنا وانتقامنا اليهودي من نوع آخر وقد نفذناه بإنشاء دولة إسرائيل». مدهش فعلاً! لنفترض أن قارئاً من المريخ قرأ هذا التصريح، ماذا سيستخلص منه؟ الأرجح انه سيعتقد أن النازية ارتكبت جريمة بشعة بحق اليهود (وهذا صحيح)، وأن اليهود انتقموا منها بإنشاء دولة مستقلة لهم (وهذا صحيح بدوره)، لكنه سيفترض أن دولة إسرائيل اليهودية قامت في ألمانيا نفسها، أو في أوروبا التي تواطأ معظم بلدانها مع النازية. لكن أخانا المريخي مخطئ هذه المرة، فقد تحقق الانتقام اليهودي من النازية على حساب شعب لا علاقة له بالنازية، ولا تكاد تكون له علاقة باليهودية طوال أكثر من ألفي عام، وبالنتيجة ستتكون لدى ضيفنا المريخي فكرة غير مشرفة عن أخلاق الأرضيين وعقلهم، ولن يكون في وسعنا، مخلوقات الأرض، أن نصحح انطباعه بالإحالة على وزير خارجية واحدة من أكثر دول العالم تقدماً اقتصادياً وتقنياً، وغنى ثقافياً وفلسفياً، أخينا شتاينماير.ترى لو استفتينا إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني العظيم ومؤلف «نقد العقل العملي»، ما يحتمل أن تكون فتواه؟ هل سيقف الى جانب الألمان أم إلى جانب الإسرائيليين؟ قطعا سيكون إلى جانب الفلسطينيين. ذلك أن «فيلسوف كونيغسبرغ» هو من وضع «الأمر المطلق» التالي أساساً لأي أخلاقية متسقة (والاتساق هو أخلاق أي أخلاقية): «تصرف وفقاً لقاعدة تريد لها أن تكون قانوناً عاماً للإنسانية». أي أن ما لا يمكن أن يكون قانوناً عاماً يطبق على الجميع لا يمكن أن يكون أخلاقياً. أو أنه ما من حق يكون شرعياً إن لم يكن قابلاً للتعميم. والحال، أن يدفع طرف ثالث ثمن جريمة طرف أول بحق طرف ثان لا يمكن أن يكون قانوناً عاماً للإنسانية أو حقا شرعياً لأحد. كانط ضد شتانماير المتحضر وبيريز الحكيم، وفي صف الفلسطيني الأخرق. * كاتب سوري