في ظل التوتر المستعر، تنطلق دعوات مبهمة لحوار وطني في مجتمع فقد في الآونة الأخيرة أدنى مستويات الانسجام والثقة بين مكوناته، التي يجب أن تُرمَّم من خلال جهد جهيد من أصحاب الدعوات لتعزيز الثقة عبر تبنيهم أطروحات عادلة لشرائح المجتمع كافة كي ترمم جسور التواصل أولاً، وتعيد الثقة المفقودة بين هذه الشرائح ثانياً.

Ad

أصبح التوتر الاجتماعي في الكويت حالة مستمرة ومتجددة تشكل أرقاً ومخاوف جدية تهدد البلد، ويعيها المطلع على الأحداث والمدرك لتبعاتها، فبعد التوتر الطائفي، الذي مازالت آثاره مستمرة حتى اليوم، والذي صاحب قضيتي تأبين عماد مغنية والسيد الفالي، والتوتر القبلي (العرقي) الذي أشعلته مواجهات الانتخابات الفرعية في الصباحية والعارضية، يعيش البلد حالياً قمة التوتر الطبقي إثر تداعيات بحث ومناقشة مقترحي قانون شراء مديونيات المواطنين، وقانون تعزيز الاستقرار المالي للدولة لمعالجة مشاكل الشركات المتعثرة.

إذ عكس ذلك تناحراً بين أطراف تمثّل طبقات مختلفة من المجتمع في جدل داخل البرلمان وخارجه والمنتديات العامة بشأن هذين القانونين، وتمسكاً من جانب كل طرف بما يعتقد أنه يمثل مصلحة موقعه أو شريحته الاجتماعية، وهو ما جرّ أغلبية أبناء الشعب إلى مواجهات كلامية تُعزّز التوتر الطبقي الخطير، بما يُمثل اكتمالاً لمثلث التوترات (الطائفي والعرقي والطبقي)، ويشكل صدعاً في قاعدة أي مجتمع، ويهدده بزلزال لا تُحمد عقباه.

إن سقوط أي دولة في شَرَك تصنيفها «دولة فاشلة» يَنتج أحد مسبباته الرئيسة من جراء سخونة أحد أضلاع مثلث التوترات الثلاثة أو جميعها، وهو ما يؤدي بدوره إلى سقوط أجهزة الدولة بسبب فقدان قدرتها على ممارسة دورها في المجتمع وانخراط مكوناتها من المواطنين في المواجهات التي تفرزها تلك الحالة.

فالمجتمع الذي يفقد قدرته على الانسجام والتوصل إلى تفاهمات تحل مشكلاته وتحقق العدالة لجميع أبنائه، يظل في حالة توتر ومواجهة مستمرة، وهذا هو ما يعيشه المجتمع الكويتي حالياً، ويمكن تلمسه بسهولة في الصحف والفضائيات، وهي تؤدي تدريجيا إلى فقدان الثقة بين فئاته بما يمنع أي حوار محتمل لحل مشاكله.

إن المتغيرات التي شهدها المجتمع الكويتي ومكوناته خلال ثلاثة عقود فقط من الزمن ضخمة، ولا يمكن لأي مجتمع أن يستوعبها أو يتعايش معها بسهولة، فالكويت لم تعد تلك المدينة الساحلية الصغيرة التي تضم مُلّاك السفن وتُجّار اللؤلؤ و«البحرية» وبعض الصنّاع الذين كانوا يعتمدون على تكامل الأدوار في ما بينهم، وإن كانت هناك أغلبية منهم مغبونة، لكنها كانت ترى الحاجة إلى استمرار تلك العلاقة على ما هي عليه كضرورة معيشية.

لكن تفجّر الثروة النفطية السهلة ضرب هذه المعادلة وتوازناتها في الصميم، وجاء الغزو العراقي بعد سنوات فأسقط هيبتها المعنوية، كما أن استقواء السلطة بفئات اجتماعية لمواجهة مطالب فئة أخرى بالمشاركة في القرار الوطني، ومنع تطبيق الدستور بشكل كامل، أعطياها الجرأة على طلب حقوقها في الثروة ووجاهة المناصب، وهي حقوق مشروعة لها، إن تمت وفق طرق قانونية سليمة.

ولكن هناك مَن لا يريد أن يرى تلك الحقائق، ويصر على الصيغة القديمة التي تجاوزها الزمن، وهو ما يحدث في أسلوب تناول قضية الشركات المتعثرة وقروض المواطنين، وما يرافقهما من حجج، من طرفي المواجهة، تنقصها العقلانية والعدالة المفترض أن تتحققا بأكبر قدر ممكن. وفي ظل هذا التوتر المستعر، تنطلق دعوات مبهمة لحوار وطني في مجتمع فقد في الآونة الأخيرة أدنى مستويات الانسجام والثقة بين مكوناته، التي يجب أن تُرمَّم من خلال جهد جهيد من أصحاب الدعوات لتعزيز الثقة عبر تبنيهم أطروحات عادلة لشرائح المجتمع كافة كي ترمم جسور التواصل أولاً، وتعيد الثقة المفقودة بين هذه الشرائح ثانياً.

فالناس الآن لا يمكن استدعاؤهم في الملمات وهجرهم عند تحصيل المكاسب والامتيازات، ولا يمكن لحوار وطني جاد أن يقوم ويثمر على صدع زلزالي تحركه التوترات، وأخطرها الغبن الاجتماعي الذي يؤدي إلى التناحر الطبقي، وهو أهم ما يدفع أفراد المجتمع إلى اللجوء إلى انتماءاتهم البدائية الغرائزية العرقية والطائفية بحثاً عن حقوقهم، وتحقيقاً للمساواة والعدالة المفقودتين.