هديتك يا شيخ... لا نستحقها!

نشر في 04-04-2009
آخر تحديث 04-04-2009 | 00:00
 حمد نايف العنزي سأتابع معكم اليوم أيضا، ما كتبه «نوبرت ليتل» في عدد أكتوبر 1965 من مجلة «ريديرز دايجست» عن الكويت في الفترة التي أعقبت الاستقلال وما قبلها، قال يصف «الشيخ عبدالله السالم» طيب الله ثراه في فقرة عنوانها «من أجل خير الشعب»: «إن الثروات الهائلة والمفاجئة التي أنتجها البترول في كل أنحاء بلاد العرب، كثيرا ما تجاوزت الشعوب ولم يستخدمها سوى الملوك والسلاطين والأمراء والمشايخ في بناء القصور الفارهة، وتركيب صنابير من الذهب الخالص لأحواض الاستحمام، وقضاء العطلات على شواطئ الريفيرا، لكن الكويتيين كانوا سعداء الحظ إذ كان حاكمهم من أحكم الرجال في الشرق الأوسط، فالشيخ «عبدالله السالم الصباح» رجل مفكر متواضع، وقور في ردائه الفضفاض البسيط، يبدو لمن لا يعرفه أشبه بتاجر عربي متقاعد يميل للأدب أكثر مما يبدو حاكما لدولة ثرية، وهو يقرأ القرآن والشعر العربي ويقتبس منهما بسرعة، كاره للعنف، زاهد، ليست له إلا زوجة واحدة، ولم يحاول توسعة قصره الخاص، فضلا عن أنه مقتنع تماما، بأن آل الصباح يجب أن يضعوا خير الشعب فوق راحتهم الخاصة، إذا أرادوا البقاء لأسرة الصباح والدولة التي يحكمونها منذ عام 1756».

ثم يضيف في فقرة تالية عنوانها «نحو الديمقراطية»:

«على عكس الوسائل التي يتبعها شيوخ العرب في كل مكان، ساعد أمير الكويت الشيخ «عبدالله السالم» منذ ثلاث سنوات على وضع دستور للبلاد، وإنشاء مجلس للأمة أغلب أعضائه من رجال الأعمال وبعض المحامين والمدرسين، وقد ظهر ازدياد نفوذ مجلس الأمة في ديسمبر 1964 عندما اعترض الأعضاء على تعيين بعض الوزراء الذين اختارهم رئيس الوزراء، وهو في نفس الوقت ولي العهد، وبدلا من أن يحل الأمير مجلس الأمة كما يسمح له الدستور، فقد قبل استقالة الوزارة ودعا رئيس الوزراء إلى تشكيل حكومة جديدة يرتضيها مجلس الأمة... وهكذا انضمت الكويت دون هزات أو شغب أو ثورة إلى موكب الدول الساعية نحو الديمقراطية، وقليلة هي الدول التي قدم لها هذا الأمل في طبق من الذهب كم حدث في الكويت».

وبعد أن يعدد إنجازات الشيخ عبدالله السالم يختم كلامه بهذه الفقرة:

«هذه الدولة الصغيرة قد تصبح عاصمة ثقافية وتعليمية وعقلية كمصر ولبنان، لأكثر من خمسين مليون عربي تجمعهم اللغة والذكريات الواحدة، وإذا تواجد في الكويت في مرحلة ما بعد عبدالله السالم، حكومات بارعة غير أنانية، فسوف تتمكن من تصدير لا البترول فحسب، بل المهندسين والمعلمين والأطباء والمفكرين والكتاب وأرباب المهن لتخدم جيرانها الأكثر حاجة إليها!».

آه يا «نوبرت ليتل»... ليتك تعود فترى أن جيران هذه الدولة الصغيرة الواعدة قد تفوقوا جميعهم عليها، بل تجاوزوها بمراحل، وأن الأنانية التي حذرت منها، قد تحولت إلى مرض استفحل في جزء من هذا البلد وأصاب جميع من فيه، حكومة وبرلمانا وشعبا، وأن تفاؤلك لم يكن في محله، فهي اليوم لا تصدر لهم المهندسين والأطباء والمفكرين بل تستورد الشهادات العلمية المزيفة من الدكاكين الجامعية في كل مكان، وأن الزيف لم يعد يشمل الشهادات فقط، بل شمل الوجوه والقلوب والألسنة والضمائر والحب والسياسة والدين وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال!

وليتك تعود يا شيخنا الراحل... فترى ماذا صنع أبناؤك بهديتك الجميلة الرائعة التي أهديتها لهم، وكنت تحسب أنك تحسن بهم صنعا، الديمقراطية التي تنالها الشعوب بالدماء والثورات والتضحيات، قدمتها لهم أنت بكل حب وود على طبق من ذهب، فانظر ما صنعوا بها، وكيف شوهوا ملامحها الجميلة حين جعلوها وسيلة للتناحر والشقاق والفرقة والعودة إلى الوراء عشرات السنين!

الناس تتطور بالديمقراطية وترتقي فكريا وعلميا وثقافيا، وأبناؤك يزدادون جهلاً وتسلطا ورغبة في كتم الحريات وإخراس الألسنة، والانزواء في زاوية مظلمة من زوايا الأزمنة الغابرة يقتاتون على ما فيها من أطعمة منتهية الصلاحية، فاسدة الطعم، نتنة الرائحة، وحجتهم أنهم هكذا وجدوا آباءهم على أمة وأنهم على آثارهم لمهتدون!

شيخنا الراحل... يا أسطورة الصحراء التي لن تتكرر: لقد كنت كريما معنا لأقصى حدود الكرم، لكننا لا نستحق كرمك هذا، لقد أردت لنا الخير والتقدم والعلم والنماء، وأردنا التخلف والتعصب والجهل والغباء، كنت تفكر فينا وفي أبنائنا وأحفادنا وأبناء أحفادنا، نحن الذين لا نفكر إلا في أنفسنا ومصالحنا الشخصية الأنانية، صنعت وطنا احتضن كل أبنانه بحب وحنان، لكننا تقافزنا بعدك من حضنه إلى أحضان القبائل والطوائف والعوائل، أردتنا أن ننظر إلى المستقبل دائما، ونسيت أننا ننتمي إلى أمة تذوب في هوى الماضي السحيق وخرافاته، عذرا يا شيخنا الذي تعجز مئات السنين عن أن تلد مثله، كرمك كان في غير محله، وهديتك لا نستحقها، ولسنا جديرين بها، ولن نحافظ عليها أو نصونها أبدا، لسبب بسيط جداً، أننا لا ندرك قيمتها للأسف!

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top