لم تكن هناك طفولة في صين (ماو)، لأن الطفولة كانت تُعدُّ ترفاً، ولم يكن للأبوة والأمومة معنى حقيقي، لأن هاتين الرابطتين كانتا في ذلك العهد تعدان من الكماليات! كان الصغار والكبار جميعاً أبناء للحزب، وهو وحده الذي يقرر كيف يعيشون وكيف يموتون كتروس في آلة مشاريعه الحكيمة والصحيحة دائما!
تقول الكاتبة الصينية (آنتشي مين) في سيرتها الشخصية (الأزاليا الحمراء) التي تروي فيها تجربتها خلال سنوات الثورة الثقافية في الصين: لي أخ وشقيقتان كنت أسمّيهم أطفالي، وذلك لأنه كان عليّ، يومياً، أن أصطحبهم إلى الحضانة أو الروضة، وأعود بهم منهما، فيما كنت أنا نفسي مثلهم طفلة في الروضة! وتتحدث عن اسمها وأسماء إخوتها، لتبين أن تسميتهم وحدها كانت مغامرة جريئة من والديها، ومؤشرا على غرابة أطوراهما وسباحتهما ضد التيار. تقول: لقد اتخذ والداي خيارات تسميتنا بشكل غير مألوف، إذ أطلقا علينا نحن البنات أسماء أحجار كريمة، فأنا (آنتشي)، وأختي الثانية (المزهرة)، وأختي الأصغر (حجر المرجان)، أما أخي فقد سميّاه (فاتح الفضاء).. وكانا من هذه الناحية يعدان شاذين بالنسبة للآخرين، لأن جيراننا كانوا قد سمّوا أبناءهم على النحو التالي: حارس اللون الأحمر، الوثبة العظيمة، المسيرة الطويلة، النجم الأحمر، التحرير، الثورة، الصين الجديدة، طريق روسيا، مقاوم الأميركان، الوطني الرائد، الجندي الشيوعي الفذّ، إلخ! وتُبدي ملاحظة لابد منها حول اسمها قائلة إن والديها سمّياها في البداية (لن - شوان) أي (الشمس المشرقة فوق الجبال)... لكنهما سرعان ما انتبها إلى زلّتهما، وبادرا فوراً إلى إلغاء هذا الاسم، حين تذكرا أن الزعيم (ماو) كان يُعتبَر الشمس الوحيدة في هذا العالم! وبعد تفكير طويل أطلقا عليها اسم (آنتشي) ومعناه (حجر السلام)، أمّا اسم أخيها (فاتح الفضاء) فقد اختاره أبوها لسببين: أولا لأنه كان يحب علم الفلك وثانيا لكي يؤكد تفاعله مع تصريح (ماو) الذي أعلن فيه أن الصين ستبني قريبا جداً مركبتها الفضائية الخاصة! وعن فترة أمومتها لأخوتها وهي طفلة في الروضة، تقول إنها برغم خوفها من الأزقة المظلمة ومن عبور الشوارع المزدحمة، عند اصطحابها لأشقائها، فإنها تعلمت ألا تظهر خوفها، لأنها كان مفروضا عليها أن تكون قدوة أعلى للأطفال، وأن تعطيهم مثلا على ما تعنيه الشجاعة. وبعد أن توصلهم إلى البيت، كانت تذهب إلى المطبخ لإعداد العشاء، وكانت دائما تستغرق وقتا طويلا من أجل إشعال الموقد، وعن ذلك تقول: لم أكن أفهم أن الخشب أو الفحم يحتاجان إلى هواء لكي يشتعلا، وعلى ذلك فإنني كنت أحشو الموقد بالحطب، ليندفع الدخان منه بلا نار، وكنت في الوقت نفسه أغني عدة مقاطع مقتبسة من تعاليم (مالو)! نعم... (الهواء)... تلك هي كلمة السر التي تلخص معاني الحياة كلها، إذ لا يمكن للنار أن تشتعل بترديد تعاليم (ماو).. بل بالهواء تشتعل. وكذلك لا يمكن للحياة أن تتحقق بغناء تعاليم الزعيم... الأوحد ولكن بهواء الحرية تتحقق! وعند انتقالها إلى المرحلة الابتدائية، وانضمامها إلى (طلائع الحرس الأحمر) كانت (آنتشي) غاطسة ليل نهار في مهمّة إعلاء شأن الشيوعية. تقول: في تلك الأيام كنت أرسم الشعارات الثورية على الجدران والألواح، وكنت أقود زملائي وزميلاتي لجمع قطع النقد الصغيرة التي لا تتعدى قيمتها بضعة بنسات، وذلك لكي نتبّرع بها لإعالة الأطفال الجائعين في أميركا! وتضيف: لقد كنا فخورين بهذا العمل، وكنا واثقين من أننا بهذا نضع نقطاً (حمراء) جديدة على خارطة العالم، وأننا نناضل من أجل السلام النهائي لكوكب الأرض! ذلك ما تصنعه الدعاية الحزبية اللئيمة بأذهان الأطفال، فتغسلها من المنطق الذي ينبغي أن يكون حاضرا في الأذهان عند إجراء المقارنة بين الشيء ونقيضه، بين حياة أطفال الصين المرفّهين وحياة أطفال أميركا الفقراء الذين يتصدق أولئك عليهم بالبنسات من جل إشباع جوعهم! لنستمع الى هذه المرفّهة المتصدقة وهي تحدثنا عن مظاهر رفاهيتها: تقول (آنتشي): عندما التحقت بمدرسة السعادة الابتدائية، كانت رفيقاتي في الصف يسخرن مني، لأنني كنت دائما، أرتدي نفس المعطف المطرز بالثقوب من كل جهة، وهو أصلا واحد من الثياب القديمة التي تلقيتها من ابنة عمّي! وتواصل قولها: إن أختي (المزهرة) كانت، في العادة ترتدي ملابسي التي تضيق علي بفعل النمو، ولكن بعد أن توضع لها رقع على الياقات والمرافق. أما أختي (حجر المرجان) فقد كانت ترث الملابس نفسها من (المزهرة) بعد أن تضاف إليها رقع جديدة أخرى، بحيث تبدو تلك الملابس عليها وكأنها ذائبة، برغم حرصها الشديد على العناية بها، لعلمها بأن شقيقنا (فاتح الفضاء) ينتظر دوره في ارتدائها! و(فاتح الفضاء) بحكم تأخر دوره، كان دائما يرتدي أسمالا بالية، حتى أن أطفال الجيران كانوا يسمونه (البرغوث)، وقد كان هذا يجعلني أشعر بأنني مذنبة الى حد بعيد! وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الأسرة المنفذة حرفيا لاشتراكية الأسمال، كان من المحتمل جداً أن تتهم، بكل بساطة، بأنها (أسرة بورجوازية)، بمجرد أن يغضب منها أي رفيق، وعلى المرء أن يتخيل ضخامة حجم هذه الاحتمالات، إذ تذكّر أن الصين كانت تعج بما يزيد على مليار رفيق! في عام 1967 انتقلت أسرة (آنتشي) من مسكنها بسبب ما كابدته من أذى الجيران في الطابق الأسفل... إذ كان هؤلاء غاضبين على الدوام لكون الطابق الذي تقطنه أسرتها يتألف من غرف أكثر، ولهذا كانوا لا يتورعون عن دلق دلاء (مخلفاتهم) فوق أسرّة النوم في بيت آنتشي. وظل أولئك الجيران ُيصعّدون عدوانهم يوماً بعد يوم، ويهدّدون بإيذاء الأطفال عند غياب أمهم وأبيهم- وهما بالطبع غائبان للعمل طول اليوم- ووصلوا الى حد تهيئة المسرح لارتكاب جرائم معفاة من العقاب، بقولهم إن ابنتهم الثانية لها تاريخ طويل في الاختلال العقلي، ولهذا فإنهم غير مسؤولين عما ستفعله. تقول (آنتشي): عندما عادت أمي من العمل، ذات يوم، وتخطت باب المبنى الى الداخل، قفزت (البنت الثانية) فوقها، مشهرة في وجهها مقصا. لقد رأيتهما تتصارعان في بئر السلم، ثم تلقت أمي دفعة عنيفة جعلتها تترنح وتهوي مرتطمة ببلاط الأرضية، وعلى وجهها وذراعها طعنات المقص. كانت صدمة بالنسبة لي. وقفت الى جانب أمي التي كان الدم يتدفق من جراحها. حاولت أن أصرح، لكن صوتي كان قد هرب مني. أما (البنت الثانية) فقد نزلت الى الطابق الأسفل، وجرحت رسغيها بمقصها، ثم اندفعت الى الخارج بعجلة وعنف، متوجهة نحو حشد الفضوليين، وراحت تصرخ رافعة رسغيها الداميين عاليا: انظروا إليّ... إنني عاملة، وقد هوجمت من قبل الطبقة البورجوازية أيها الرفاق إنها جريمة سياسية! أهذه نكتة؟ ربما.. لكنني لا أراها كذلك لأنني كعراقي أعرف كثيرا من هذه المواقف في عهد صدام الرجيم، حيث كانت تهمة الخيانة الى المواطن لأي سبب، مرفقة بطلقة وفاتورة بثمنها يتوجب على اهل المواطن تسديدها بعد قتله! كان يمكن للرفيق الفاشيّ في دولة المنظمة السريّة أن يتهمّ حتى الأعمى والمقعد بالتجسس لمصلحة الإمبريالية! والعراقي الذي يعرف هذا لن يستطيع أن يضحك من الواقعة التي ترويها (آنتشي مين)، لكنه يستطيع بكل تأكيد أن يتذكر، بوحي من هذه الواقعة طائفة كيبرة مثلها أو أسوأ منها، فيحتاج حينئذ إلى البكاء... ويحتاج في ذلك الى من يساعده بقدر إضافي من الدموع! * شاعر عراقي كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
حديقة الإنسان: الأزاليا الحمراء (2/3)
17-04-2009