قوائم العار
في يونيو من عام 2005، بعث الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في «القاعدة» رسالة مناصحة إلى زعيم التنظيم في العراق أبي مصعب الزرقاوي، محاولاً ترشيد أدائه وتفعيله، ومما سطره في هذه الرسالة قوله: «وتذكر دائماً أن نصف المعركة في الإعلام»، والواقع أن الصواب قد جانب القيادي الكبير؛ إذ ظهر لاحقاً أن معظم المعركة في الإعلام، وليس نصفها فقط كما قال.فالإعلام لم يصبح محض سلطة رابعة، كما اجتهد أقطابه في أصقاع العالم لتأمين تلك المكانة له، ولكنه بات سلطة عابرة للسلطات، مفتئتة عليها، ومجيرة أركانها جميعاً، ومختزلة أدوارها كلها لمصلحتها، إلى حد كبير.
حين زار الرئيس السادات القدس تعمق شرخ كبير، مازال العالم العربي يعاني آثاره إلى اليوم، حيث انقسمت الأمة بين معسكرين رئيسين؛ عُرف أحدهما بمعسكر «الاعتدال» أو «الاستسلام»، فيما عُرف الآخر بمعسكر «الممانعة» أو «المقاومة»، وقد استفحل هذا الشرخ وزاد حين غزا صدام حسين الكويت، وما تلا ذلك من تطورات بدأت في مدريد، ثم أوسلو، وصولاً إلى مبادرة السلام العربية التي أطلقت في بيروت، وبعدها الغزو الأميركي للعراق.وحين اندلعت حرب تموز في عام 2006، بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان، ثم حين شنت الدولة العبرية عدوانها الإجرامي الأخير على غزة في نهاية العام الفائت ومطلع العام الجاري، كان انقسام العالم العربي يتكرس، ومعه يزيد نفوذ الإعلام ويستفحل، ويتحول غاية في الصراع في حد ذاته، لا مجرد فعالية مشرفة عليه ومتقصية لأبعاده.برزت سلطة الإعلام وتطورت، واستخدمت كل تكنيكاتها الشائنة في حرف اتجاهات الجمهور والتلاعب بعواطفه ومصائر قضاياه، وقد ساعدها على ذلك خواء المؤسسة العربية الرسمية، وتهشم البنى غير الرسمية، واختلاط الصراعات الدائرة بالاعتبارات الدينية والتاريخية وفق تفسيرات معظمها مغرض، عوضاً عن سخونة التناقضات واحتدام النزاع واختلاطه بالمصالح الأساسية وارتهانه للسلاح.وحدث أن تحولت «الميديا» ميداناً رئيساً للصراع، وباتت الدول والجماعات تصوغ مواقفها مراعية لأهواء الجمهور ومتهيبة منها، فيما راحت وسائل الإعلام تشكل هذه الأهواء وتحرفها عن الحقائق والنظر الموضوعي المجرد. ومن ذلك أن انقسم الصحافيون وحراس البوابات الإعلامية وقادة الرأي من كتاب ومعلقين ومحللين إلى فريقين على طريقة «فسطاطي الخير والشر»، وراحوا يخوضون معركة باتت هدفاً في حد ذاتها، وميداناً تستخدم فيه أمضى الأسلحة وأبشعها.وعلى غرار «قائمة العار»، التي قيل إنها تضم أسماء كتاب عرب «يتقاضون رواتب من الحكومة الإسرائيلية» لقاء مهاجمة حركة «حماس»، ثم ظهر لاحقاً أنها قائمة تضم أسماء كتاب نشر لهم موقع «تواصل»، التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية، مقالات تظهر انتقادات لمسلك الحركة في إدارة أزمة العدوان الإسرائيلي الأخير، ظهرت «قوائم عار» أخرى عديدة.عربياً؛ ثمة قائمتان رئيستان؛ إحداهما تحوي أسماء وسائل الإعلام والكتاب الذين ينتقدون أداء ما يسمى بـ «محور الممانعة»، وهؤلاء قيل إنهم «خونة وعملاء إسرائيليون وأميركيون»، وثانيتهما تضم وسائل الإعلام والكتاب الذين يدافعون عن «المقاومة المسلحة» على طول الخط، وينتقدون أداء الحكومات العربية «المتخاذلة» والعدوان الإسرائيلي المدعوم أميركياً، وهؤلاء قيل إنهم «خونة وعملاء إيرانيون». بالطبع يمكن للمرء أن يتفهم أن ثمة كتاباً ومحللين عرباً يخدمون أغراض هذا المعسكر أو ذاك، كما يمكن أن يصدق أن هذه الخدمات تكون مدفوعة في بعض الأحيان؛ وهو الأمر الذي يفسر انحيازهم السافر لخط المعسكر الذي يخدمونه مهما جانبه الصواب أو أصابه الخلل.كما يمكن للمرء أيضاً أن يتفهم أن دولاً وجماعات وفصائل كثيرة تنشئ فرقاً إعلامية بهدف بناء صورتها وصيانتها وتعزيزها في جميع الأحيان، بما يشمله ذلك من الهجوم على أعدائها، وتشويه خصومها، والحط من شأن مناوئيها، ومدح خطها السياسي، وتعظيم سياساتها، وتفخيم قاداتها. بل إن بعض الدول والجماعات تنشئ وسائل إعلام كاملة خارج حدودها، وتديرها لمصلحتها، كما تشتري مساحات في وسائل إعلام أخرى غير تابعة لها، أو تشتري ذمم رجال إعلام ليحققوا لها أهدافها.يحدث هذا منذ قديم الأزل، وقبل أن تتطور وسائل الإعلام وتأخذ أشكالها الراهنة، ثم بعد أن أصبحت في الوضع الذي هي عليه الآن. يحدث هذا لأن تلك هي طبيعة الأشياء، ولأن بين آلاف الإعلاميين والكتاب العرب من هم ليسوا فوق مستوى الشبهات، وبينهم من قد يبيع ذمته، أو يسلم قلمه لمصلحة تيار أو سياسة أو فكر ما، سواء تم هذا مقابل اقتناع كامل وتماهٍ تام، أو حدث مقابل الإغراءات المادية والعينية. يحدث هذا في مجال الإعلام، لأنه يحدث في شتى المجالات؛ السياسية والعسكرية والقضاء والأعمال والمصارف والخدمات وجميع القطاعات مهما تنوعت ومهما وضعت لها الضوابط والمعايير.ورغم الإقرار بوجود تلك الآفة بين الإعلاميين والكتاب والمحللين العرب؛ مثلهم في ذلك مثل غيرهم من المهنيين وأصحاب الأعمال؛ فإن حجم الفساد في القطاع الإعلامي تحديداً ليس بالصورة التي يسعى الإعلاميون أنفسهم لتصويرها اليوم، بل هو أقل من ذلك بكثير. بل إن كثيراً من الإعلاميين والكتاب والمحللين العرب أثبتوا غير مرة أنهم عصاة على الخنوع والاستنفاع، وبعضهم فقد مصالحه، وآخرون فقدوا حرياتهم، ومنهم من فقد حياته بسبب تمترسه في خندقه، ودفاعه الصلب عن مواقفه في مواجهة الترهيب والإغراءات.نشر الأستاذ فهمي هويدي مقالاً في «الجزيرة نت» الثلاثاء الماضي، استهله بالعبارة: «أدري أن الحديث عن «حماس» هذه الأيام قد يصبح وقوعاً في المحظور، واعترافاً بالتخابر مع محور الشر العربي»، مجسداً أزمة «قوائم العار» في أوضح صورها. لكنه أيضاً حرص قبل أن يختم مقاله على أن يشن هجمته المرتدة، قائلاً: «وبالمناسبة فإن أبواق حملة التعبئة المضادة على الصعيدين الإعلامي والسياسي درجت على القول إن «حماس» تنفذ أجندة إقليمية غمزاً من قناة إيران».«قوائم العار» شملتنا جميعاً، ولم تترك لنقادها فرصة، ولو ضئيلة، للفكاك منها؛ بحيث بات لزاماً على كتاب كبار أن يهاجموا عبثيتها وعوار منهجها، فيما هم مسلوبون لذلك المنهج ومستخدمون له في آن. سيظل إعلاميونا وكتابنا ومحللونا مرهونين لأوصاف «العمالة» و«الخيانة» في معظم الأحوال، ومتهمين بـ «السطحية» و«الضحالة» و«البله» في أحسنها، فقط لأنهم مارسوا أدوارهم المفترضة في مقاربة ما يحيق بعالمهم من قضايا وتطورات، ولأنهم غير مقتنعين بأن ثمة بينهم من يقول بغير ما يقولون وهو مقيم على وطنيته ومحتفظ بعقله.«قوائم العار» حقيقة واقعة، لكنها على عكس الشائع، لا تضم «خونة ومأجورين» فقط، ولكنها تحوي أيضاً أسماء هؤلاء الذين اعتقدوا أن الباطل لا يأتيهم، وأنهم يحتكرون الحقيقة والوطنية والأهداف النبيلة، وأن من يناقض أفكارهم لا يستحق سوى المذلة والخزي. وفي ذلك خطر لو تعلمون جلل.* كاتب مصري