لماذا الأزمة السياسية عالمية؟

نشر في 11-05-2008
آخر تحديث 11-05-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد زارتني مجموعة كبيرة من أساتذة الإعلام في عدد من أبرز الجامعات الأميركية. كانوا يريدون مناقشة السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، غير أنهم بحكم التخصص وبحكم عملي في صحيفة يومية بادروا بالسؤال عن مسار ومصير الصحف المطبوعة.

وكانوا يتفقون على أن الصحافة المطبوعة تعاني مشكلة متعددة الجوانب في أميركا وأوروبا: أرقام التوزيع تنخفض والمنافسة من القنوات التلفازية والصحافة الإلكترونية تتزايد، غير أنهم أشاروا أيضا إلى أزمة المصداقية خصوصاً بمناسبة الدور السلبي الذي لعبته الصحف المطبوعة في قرار غزو العراق. فهي متهمة بالتواطؤ مع إدارة بوش حول القرار وبتعزيز سياسات الكذب والفشل في كشفه وأيضا بالترويج السياسي على حساب حق القارئ في المعرفة الموضوعية وكذلك حق بلادهم (وبلادنا بالطبع) في وضع وتطبيق سياسات عقلانية.

استجابة لهذا الرأي قلت دعونا نوسع مجال المسؤولية. لقد رأيت الكونغرس الأميركي قبل أسابيع من غزو العراق وهو يصفق وقوفا كل بضع ثوان للرئيس بوش وهو ما دعاني إلى الاعتقاد أني أشاهد البرلمان المصري أو الأوغندي وليس برلمان الدولة الديمقراطية الأولى في العالم. وذكرت زواري من أساتذة الجامعات الأميركية بدرجة السهولة التي نجح بها الرئيس في إقناع الكونغرس بإصدار قانون تفويضه بشن الحرب على العراق من دون تحديد أهداف واضحة أو أطر زمنية أو ميزانية أو أي شيء آخر: أي شيك على بياض من النوع الذي يحصل عليه عادة مستبدو العالم العربي وبعض مستبدي العالم الثالث. ثم إن المسؤولية تتجاوز الصحافة المطبوعة والكونغرس، فالفكر الأميركي نفسه ازداد اختلاطا واضطرابا.

المفكرون الحقيقيون قابعون في دور علم حقيقية ولكن من دون دور تقريبا في توعية مواطنيهم اللهم باستثناء الكتب التي تطبعها وتوزعها مطابع الجامعات. والمفكرون المتوسطون يسيطرون على حركة الأفكار من خلال التلفزيون وما يسمى بمراكز التفكير «أو الثنك تانكس»، وقلت رأيي إن الأخيرة هي «موني تانكس» أي مراكز مال وأعمال أو «بوليتيكال تانكس» أي مراكز للسياسة أكثر منها مراكز تفكير، وليس أدل على ذلك من أداء ومواقف مركز الشرق الأدنى الصهيوني المتطرف في واشنطن، والذي تخصص في إمداد الأيباك بالشعارات السياسية المعادية للعرب والفلسطينيين.

نموذج آخر للاستباحة التي يتعرض لها الفكر في أميركا هو صامويل هنتنغتون الذي أصدر كتابه «صراع الحضارات» من دون أدنى إلمام كما اعترف هو نفسه لاحقا بالأدبيات العلمية الهائلة حول قضية الحضارات والثقافات، كما اعترف بأنه لا يكاد يعرف شيئا عن الإسلام أو الكونفوشية. ومع ذلك واتته جرأة مذهلة في التقدم بنظرية كاملة حول الصراع الذي يتعين على أميركا أن تخوضه في المستقبل ضد الإسلام في الشرق الأوسط والكونفوشية في الصين. ويتقدم نفس الرجل اليوم بنظرية صيغت لرفض ترشيح أوباما لرئاسة أميركا، إذ يقول إن أميركا هي أساسا بلد أبيض بروتساتنتي وإن الوجود الإفريقي فيها هامشي، ومعنى هذا الرأي ألا يحكم أميركا أبدا رجل أسود، وهو في ما يبدو تهاون في موضوع المرأة لأنه يكن لها نفس الاحتقار، ولكنه مضطر فيما يبدو للقبول بالسيدة البيضاء المرشحة للرئاسة كقدر أهون من رجل إفريقي أميركي لا يمكن إجباره على تمثيل ما يسمى بالواسب Wasp أي البيض من الطبقة الوسطى المنتمين إلى البروتستانتية.

وبشكل عام تبدو المحركات الرئيسة للرأي في الولايات المتحدة مضطربة في الحد الأدنى ومأزومة بتوصيف واقعي، ولذلك مشاعر الأميركيين مختلطة وملتبسة وفاقدة للاتجاه، فالأميركيون وثقوا بتراثهم ومواقفهم أو في الواقع بمواقف وتراث زعمائهم إلى درجة أنهم يشعرون بالمفاجأة بالوضع الراهن الذي يخالف كل توقعات المجتمع الديموقراطي. وتبدو أميركا كما قال أحد الأساتذة الذين زاروني أكثر تخلفا من الناحية السياسية عن العالم الثالث، ودلل الرجل على رأيه بأن مستوى ودرجة الخضوع للرأي السائد أو الرغبة في الامتثال لضغوط الجماعة والفكر الصادر عن وسائل إعلام- مهما كانت جاهلة- رهيبة بالفعل.

هنا ذكّرت أساتذة الإعلام في الولايات المتحدة بنظرية العالم الأميركي والاس الذي أسمى هذه الظاهرة «القطيع المسحور»، إذ وصلت تقنيات الإعلام إلى مستوى يمكنها من إبهار المستمعين والمشاهدين وإحداث أثر يشبه السحر فيهم بحيث يقبلون كالقطيع ما يقوله لهم نجومهم المحبوبون في التلفزيون أو الراديو وأحيانا في الصحافة من دون مراجعة أو مناقشة حقيقية.

إذن جوهر المشكلة السياسية أن الثقافة الأميركية لا تحفز الناس على المعرفة بأنفسهم بل تشجع الجهل، وليس صحيحا أن الجهل يتعلق بالشؤون الدولية وحدها، فأغلب الأميركيين لا يعرف كثيرا عن بلاده نفسها، وبوجه عام فالديمقراطية تصبح مأزومة بعمق وبصورة خطيرة عندما يفقد المواطنون الرغبة في المعرفة والقدرة على النقاش السليم والحر لما يقوله الزعماء والنجوم. وعلينا أن نلاحظ حكاية النجوم هذه لأن «القطيع المسحور» في أميركا يستمع إلى المشاهير أكثر مما يستمع أحيانا إلى الزعماء السياسيين وأكثر بكثير مما يستمع إلى المفكرين، وقد صوت الأميركيون للمشاهير الذين خاضوا معارك انتخابية للوصول إلى مقاعد «العمدات» أو أعضاء البرلمان خلال العقدين الماضيين أكثر من أي فترة سابقة في التاريخ الأميركي رغم أن المشاهير من أقل الناس معرفة بالواقع الاجتماعي والسياسي في بلادهم ناهيك عن العالم.

لماذا صارت الأزمة السياسية «عالمية»؟ ولماذا تبدو أميركا أكثر شبهاً بمصر أو بزيمبابوي مما كنا نتوقع نحن الذين نحترم المثل الأعلى للديمقراطية؟ ولماذا يقبل الناس في أميركا أن يكذب عليهم حكامهم وأن يستمروا في الحماس لهم؟ ولماذا يصوتون لشخصيات تنتمي إلى عائلات سياسية بطريقة فيها شبهة التوريث من دون أدنى شك؟ ولماذا يأتي القرار السياسي متخبطا وجاهلا وبعيدا عن التخطيط أو الرؤية السليمة؟ الإجابات معقدة ولكن السبب الأول هو عدم رغبة المواطنين في المعرفة وفي البحث عن الحقيقة بأنفسهم وتلمس الطريق إلى تشغيل أصيل لمؤسسات الديمقراطية. وعلينا أن نبحث الطريقة التي يقود فيها الإعلام الناس إلى الجهل بواقعهم وليس للمعرفة الأفضل به.

يبدو ذلك منطقيا بالنسبة لبلد مثل مصر أو زيمبابوي، حيث أكثر من ثلث السكان أميون ولا يزيد خريجو الجامعات عن نسبة 15% من السكان، بل حيث الجامعات نفسها لا تكاد تعلم شيئا من أساليب التفكير النقدي أو الحر والباحث عن الحقيقة، ولكنه يبدو غريبا بالنسبة لبلد مثل الولايات المتحدة أو فرنسا.

الولايات المتحدة تناقش اليوم بحمية ماذا تفعل بالعراق بعد أن أدركت كمية الكذب الذي أحاط بالغزو والاحتلال، أما فرنسا فتشعر بندم عميق لأنها صوتت لساركوزي الذي ظنته المنقذ فإذا به الضلال نفسه، وفي جميع الحالات الأزمة واحدة: سهولة خداع المواطن، والحل أيضا واحد: مواطن يتساءل ويناقش ويحاسب ويحاول أن يعرف بنفسه ماذا يجري حوله.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top