التشكيك بحقوق الإنسان!
كثيراً ما يقف المواطن العربي حائراً إزاء بعض الأطروحات التي تشكك بحقوق الإنسان، رغم إيمانه بعدالتها ومشروعيتها، إلاّ أن بعض الحساسيات والتطبيقات الخاطئة ناهيكم عن بعض التداخلات الخارجية وشبهة مصادر التمويل، تجعله يميل إلى الارتياب أحياناً. ولعل هناك أسباباً موضوعية وأخرى ذاتية تقف وراء عملية التشكيك سواء لدى الجهات الرسمية أو لدى الجهات الشعبية إزاء الخطاب والممارسة السائدين بشأن حقوق الإنسان.السبب الأول في التشكيك يعود إلى ضعف الوعي بشكل عام والوعي الحقوقي بشكل خاص، لاسيما تدنّي مستوى الثقافة الحقوقية والقانونية بسبب شحة الحريات من جهة، وضعف مستوى التعليم من جهة أخرى، فضلاً عن الموروث الديني والاجتماعي والموقف من المرأة والأقليات وقضايا المهمشين والفئات الضعيفة، تلك التي تنتقص أحياناً أو تُفسّر تفسيراً خاطئاً مبادئ المساواة والمواطنة والحرية.
أما السبب الثاني فيعود إلى مواقف الحكومات والتيارات المحافظة والتقليدية في المجتمع، لاسيما الهجوم الذي تعرضت له حركة حقوق الإنسان، من جهات عديدة سواء من السلطات الحاكمة أو من معارضاتها أحياناً، تلك التي ترضع معها من ثدي واحد مصدره نمط التفكير الشمولي الإقصائي وادعاء الأفضليات وتأثيم وتحريم «الآخر» والتشكيك به.وهناك سبب فكري ثالث أساسه الاتهامات التي واجهت فكرة حقوق الإنسان باعتبارها اختراعا مشبوها وتوّجها مريبا يستهدف «هويتنا» العربية-الإسلامية، بل إن بعضهم لا يكتفي باعتبارها فكرة غربية تستند إلى مصادر الثقافة الغربية المسيحية الليبرالية، بل يعتبر الصهيونية تقف وراءها وتتستر خلفها!!هكذا أصبحت الفكرة النظيفة والفضاء الإنساني هدفاً للتشويه والاتهام مثل غيرها من القضايا النبيلة كالوحدة العربية والاشتراكية والإسلام، حيث جرت محاولات إما لتوظيفها لأغراض أنانية ضيقة وإما لاحتوائها وتوجيهها إلى مصالح خاصة أو تشويهها لتفقد الكثير من بريقها وهيبتها.السبب الرابع للتشكيك هو الخصوصية، تلك التي توضع مقابل الكونية، والمقصود بذلك التملّص من المعايير الدولية والمشترك الإنساني، الذي هو نتاج تفاعل الحضارات والثقافات المتنوعة بما فيها رافدنا الثقافي لحقوق الإنسان، منذ حلف الفضول قبل الإسلام وحتى الآن.إن التعكز على الخصوصية وإصدار الأحكام باللعنة لخطاب حقوق الإنسان، هو الوجه الآخر للخطاب السائد في الغرب، الذي يسعى إلى استخدام خطاب حقوق الإنسان لفرض الهيمنة والاستتباع، في حين يستهدف الخطاب المحلي للخصوصية تبرير الاستبداد أو التقليل من غلواء هدر الحقوق والحريات للأفراد والجماعات.وإذا كان الموقف من قضايا العالم العربي والإسلامي والعالم الثالث بشكل عام سواء في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية يتسم بالانتقائية وهضم حقوق الشعوب والأوطان في السياسة الدولية للقوى المهيمنة، الأمر الذي وجده البعض لاسيما الحكام فرصة لتبرير شكوكه واتهاماته لحركة حقوق الإنسان ودعوات الاصلاح الداخلية بحجة تأثرها بالخطاب الخارجي، إلاّ أن خطابه هو الآخر كان انتقائياً وتبريرياً باستخدام المعايير المزدوجة لتغطية انتهاكاته لحقوق الإنسان على المستوى الداخلي. وتتذرع بعض الدعوات المعادية لحقوق الإنسان خامساً بازدواجية المعايير في ما يتعلق بتطبيقات الغرب لنموذج حقوق الإنسان لاسيما إزاء البلدان النامية، ومنها البلدان العربية-الإسلامية، منذ فترة الحقبة الاستعمارية وما تبعها وحتى غزو واحتلال العراق مروراً باغتصاب فلسطين والعدوان على لبنان واستمرار احتلال الجولان والأراضي العربية المحتلة، وإن كان هذا الأمر صحيحاً إلاّ أنه لا يبرر الانتهاكات الداخلية لحقوق الإنسان مهما كانت الذرائع والحجج.ولعل هناك سبباً سادساً مهماً ناجماً عن الأداء السيئ لبعض العاملين في هذا الميدان بمن فيهم بعض النشطاء والدعاة، وإذا كانت عملية التوظيف أو الاحتواء أو التشويه غالباً ما تتم على يد الأعداء وهم كُثر، إلاّ أن الإساءة إلى حركة حقوق الإنسان تتم أحياناً بيد أصحابها ودعاتها سواء من دون قصد أو عن سوء قصد وأحياناً عن سابق إصرار، بسبب التشبث بالمواقع والتنكر للمبادئ المهنية والحقوقية وأساليب العمل الديمقراطي وتسخير الحركة لمصالح فردية لاسيما في ظل صراعات غير مبدئية ومصالح خاصة.ولعل تلك التطبيقات السيئة دفعت الأعداء إلى التشهير والطعن بحركة حقوق الإنسان بل حتى للتندر عليها، طالما هناك بعض الممارسات التي لا تختلف عن ممارسة السلطات ذاتها، الامر الذي يزيد من حيرة المواطن خصوصاً إذا لم تقرن القيادات أقوالها بالأفعال، وقد يمتد هذا التشكيك إلى القضية ككل في ظل انعدام الصدقية وضعف الثقة والتطبيقات المشوّهة التي تخالف جوهر ومحتوى الفكرة والأهداف.الإساءة إذن لا تأتي من أعداء حقوق الإنسان وحدهم، بل إن بعض الناشطين يتحمّلون المسؤولية أيضاً رغم أنها تقع على عاتق السلطات بالدرجة الأساسية، لكن بعض المؤسسات والمنظمات النقيضة بما فيها منظمات حقوق الإنسان، تحذو حذوها وتقتفي أثرها بطريقة بيروقراطية تآمرية أحياناً في علاقاتها وحياتها الداخلية، الأمر الذي يجعل المواطن يشكك بصدقية الدعوات المنادية بحقوق الإنسان، لأنه غالباً ما يربط الدعوة بالتطبيق والنظرية بالممارسة.ولعل الكثير من الملاحظات التي ارتفعت علناً بشأن فردية المؤسسات وشخصنتها وانعدام مبادئ القيادة الجماعية والمشاركة في اتخاذ القرارات والعلاقات اللاديمقراطية داخليا والانظمة الأساسية التي يقترب بعضها من الأنظمة الشمولية، فكيف للمواطن المهضومة حقوقه أن يطمئن لمنظمة تدافع عنه وهي تمارس أساليب لا تختلف أحياناً عن أساليب السلطات الحاكمة!؟إن ضعف الوعي وشحة الثقافة الحقوقية وتحدي السلطات الحاكمة والفكر التقليدي والشمولي بشكل عام وعدم حصانة العديد من نشطاء المجتمع المدني إزاء أجندات خارجية ومشاكل التمويل الأجنبي التي وقع البعض ضحيتها بل أخضع الحركة أحياناً لمتطلباتها التي تتعارض أحياناً مع أهداف ومبادئ الحركة، ناهيكم عن أخطاء وثغرات وممارسات البعض جعلت حركة حقوق الإنسان رغم ما حققته من نجاحات مهمة وتراكمات إيجابية، تتراجع وتعاني غربة لاسيما أن بعض مشكلاتها وإشكالياتها داخلية، الأمر الذي يتطلب إجراء مراجعة جادة وشجاعة لمسيرتها للتخلص من النواقص والثغرات والسلبيات التي تمسّ صدقيتها وتؤثر في تطور عملها.جدير بالذكر أنه كلما ارتفعت المطالبة باحترام حقوق الإنسان، حاولت السلطات الحاكمة والقوى التقليدية معها بما فيها معارضاتها أحياناً، إلقاء المسؤولية على الآخر باعتبارنا «الضحية» في حين أنه يمثل صورة الجلاد، وهكذا تطرح بإلحاح مسألة جدل الداخل والخارج، في الوقت الذي تتشبث الأنظمة الحاكمة بأنها ضحية إزاء الخارج، تسعى إلى إظهار قوتها وجبروتها إزاء الداخل بما يعكس الازدواجية في المعايير.وإذا كان الخارج لاسيما القوى المتسيّدة والمتنفذة في العلاقات الدولية تنتهك الخصوصية العربية والإسلامية، في ما يتعلق بقضايا التجارة الدولية وشؤون الهجرة والمهاجرين والعلاقات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ووجود القواعد العسكرية وثلم السيادة وإخضاعها للهيمنة، فإن هذه الأمور لا تثير حساسية السلطات الحاكمة، في حين تراها تضج وتصخب في ما يتعلق بقضايا المرأة وحقوقها وحقوق الأقليات الدينية والقومية واللغوية وغيرها من حقوق المهمشين والفئات الضعيفة، كما يذهب إلى ذلك الباحث والمثقف التونسي عبد الباسط بن حسن.* كاتب ومفكر عربي