في مطلع العام 2006، سعت شركة موانئ دبي العالمية الإماراتية إلى امتلاك منشآت في ستة موانئ أميركية رئيسة عبر استحواذها على شركة «بي آند أو» البريطانية، مقابل 6.8 مليارات دولار، وهو الأمر الذي واجه معارضة قوية من أعضاء بالكونغرس الأميركي، أعربوا عن مخاوفهم من أن «منح شركة مملوكة لحكومة عربية السيطرة على منشآت بموانئ أميركية سيمثل تهديدا للأمن القومي» لبلادهم.

Ad

أُجهضت الصفقة بالطبع، وتمت تسوية الأزمة باتفاق موانئ دبي مع شركة أميركية على بيعها عملياتها في الموانئ الأميركية، بعدما تخلت عن السيطرة عليها في وقت سابق لتهدئة المخاوف الأميركية، التي ظهرت سافرة ومُلحة في الجهاز البيروقراطي والإدارة والقضاء والكونغرس والصحافة والأوساط الشعبية. كثيراً ما ترددت التحذيرات في المحافل الغربية من رأس المال العربي؛ ومفادها أن «العرب الذين أثروا من مدفوعاتنا عن استيراد النفط، اكتنزوا الثروات في صناديقهم السيادية، وبعدما كان أقصى ما يحلمون به أن يضعوا أموالهم في بنوكنا، أو يشتروا منتجات من مصانعنا، صاروا يشترون البنوك والمصانع بأكملها».

لم يشفع للإمارات وقتها أنها حليف استراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، أو أنها أحد عوامل الاستقرار في الشرق الأوسط، وأن اتفاقية تعاون عسكري تربط البلدين، وحجم التبادل التجاري بينهما قياسي ويزيد باطراد، ولا حتى كونها أحد كبار مستوردي السلاح الأميركي، خصوصاً بعد «صفقة القرن» التي اشترت أبوظبي بموجبها طائرات «إف 16 بلوك 60» أميركية بقيمة زادت عن سبعة مليارات دولار.

ظلت التحذيرات تتصاعد، والكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة يضيع على دول الخليج العربية، وانقسم المجمع المالي الغربي إزاء الأموال السيادية الخليجية تحديداً بين اتجاهين رئيسين؛ أولهما يرفض السماح باستثمار هذه الأموال في الاقتصاد الغربي وفق قواعد الحرية الاقتصادية وليبرالية السوق المزعومة، وثانيهما يقبل بعض هذه الأموال جزئياً وفق أطر مقننة وعبر سياسات تجعل حركتها محدودة ومقيدة على عكس فلسفة اقتصاد السوق.

يقول المثل المصري الدارج: «إذا أفلس الخواجة، فتّش في دفاتره القديمة»، و«الخواجة» اليوم بات في موقف لا يحسد عليه بالفعل؛ فوفق أفضل التقديرات لن تقل خسائر الأزمة المالية العالمية عن ثلاثة تريليونات دولار، تتحمل الولايات المتحدة وحدها نحو نصفها، وهو أمر سيدفع مئات البنوك والشركات والمؤسسات العريقة والضخمة نحو الإفلاس، ويدخل الاقتصادات الرأسمالية العاتية في دوامة أزمة لا تنتشلها منها سوى حلول جريئة ومركبة؛ ملخصها: «استخدم السياسة لتحصل على الاقتصاد». فتّش «الخواجة» في دفاتره؛ فوجد أن دول النفط العربية «حققت عائدات تجاوزت التريليون دولار» من جراء ارتفاع أسعار النفط في السنوات الأخيرة، وأن صناديقها السيادية باتت تحتكم على ثروة تُقدر بنحو ثلاثة تريليونات دولار، وأنها في حال من الضعف والهشاشة تسمح بالحصول منها على جزء من تلك الأموال عبر ضغوط، مهما كانت «غير أخلاقية وفاسدة» وفق تعبير شافيز، أو وعود، مهما كانت وهمية وزائفة وفق الكثير من المحللين.

بدأت السياسة الغربية الرامية إلى استخدام المال الخليجي في حل الأزمة بالكثير من التسريبات والإحصاءات والتحليلات عن تضخم المحافظ المالية لدول الخليج العربية، وربطها بالارتفاعات «المبالغ فيها» في أسعار النفط، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى الإغراء بتلك الدول والتحريض عليها سياسياً. ومن ذلك أن تزامن نشر تحليلات وافتتاحيات في الكثير من وسائل الإعلام العالمية المهمة عن أن «بعض صناديق الثروات السيادية الكبرى في الشرق الأوسط ظلت تكتنز الأموال في وقت تعاني فيه أسواق الأسهم العالمية من الاضطراب»، كما نشرت «نيويورك تايمز» في عددها الصادر في 13 أكتوبر الفائت.

ثم ما لبث أن حل روبرت كيميت نائب وزير الخزانة الأميركية في جولة بالمنطقة في الأسبوع الأخير من الشهر نفسه، مشجعاً دول الخليج على الإسراع بضخ المال في أوردة الاقتصاد المأزوم. وجاء غوردون براون رئيس الوزراء البريطاني خلفه في جولة شملت السعودية والإمارات وقطر، تحت عنوان أكثر وجاهة: «دور لدول الخليج العربية في إدارة الاقتصاد العالمي إذا ضخت أموالاً لمواجهة الأزمة»، قبل أن يرحب وزير أعماله بيتر ماندلسون بـ«أموال الصناديق السيادية» تحديداً، في خطاب بدا أنه موجه للغرب ليقبل هذه الأموال.

ستتغلب السياسة على الاقتصاد، فتلك طبيعة عالمنا وفق دينامية العلاقات الدولية السائدة فيه، وستذهب الأموال بالفعل، بل إن بعضها بالفعل ذهب أو في طريقه إلى هناك.

ستدفع السياسة الغربية دول الخليج، ومعها ما تيسر من أعضاء «أوبك»، إلى عدم خفض الإنتاج النفطي، لتتجه الأسعار نحو مزيد من التراجع، وستحصل على عشرات المليارات في صورة مساعدات ومنح خصوصاً لصندوق النقد الدولي، في مقابل التلويح بـ«صولجان المشاركة في إدارة الاقتصاد العالمي» الوهمي، مستخدمة ضغوطاً تشمل الأدوات الخشنة والتهديدات المبطنة.

لا تستطيع دول الخليج مواجهة هذه المطالب والضغوط، رغم أنها خسرت نحو ثلث ثرواتها السيادية في تلك الأزمة، ورغم أنها تعرف أن جزءاً من الأموال الذاهبة لن يعود، لكنها تستطيع أن تركز مساعداتها في شراء حصص في أكثر الأصول الغربية المتاحة جاذبية وجدوى، وأن تنشط في توسيع استثماراتها في تلك البلدان التي لم تستجب لإغواءات «الخواجة» وديناميات «اقتصاد الكازينو»، فظلت أقل تضرراً من غيرها جراء خسائر الأزمة وتداعياتها.

* كاتب مصري