من خلال الطرح الإسلامي الهادئ والمعتدل والحذر تخطى رجب طيب أردوغان ورفاقه حقل ألغام الأتاتوركية، واستطاع بتقية سياسية حاذقة من خلال القنوات المؤسسية والدستورية، استمالة الشعب التركي عبر الأطروحات الإسلامية المنهجية.

Ad

منذ تولي الحزب الإسلامي مقاليد الحكم فيها، وتركيا تخطو خطوات مهمة وسريعة باتجاه تعزيز رصيدها الشعبي على امتداد الشارع العربي والإسلامي، بل تفرض نفسها كقوة إقليمية على أبواب العالمية.

والحنكة السياسية للقيادة التركية الجديدة التي يتزعمها جيل الشباب مثلما نجحت في كسب الشعب التركي بعد ربع قرن من المبارزة السياسية مع أعتى رموز العلمانية يبدو أنها تسير وبنفس الخطى الثابتة خارج حدود هذه الإمبراطورية البائدة، فمن خلال الطرح الإسلامي الهادئ والمعتدل والحذر تخطى رجب طيب أردوغان ورفاقه حقل ألغام الأتاتوركية، ومن خلال القنوات المؤسسية والدستورية، استطاع بتقية سياسية حاذقة استمالة الشعب التركي عبر الأطروحات الإسلامية المنهجية في مجال التنمية والاقتصاد من جهة، والإعلان الظاهري عن التمسك بالعلمانية خوفاً من بطش المؤسسة العسكرية من جهة أخرى.

ولعل الانتخابات التركية الأخيرة قد فرضت الكلمة الفصل للحزب الإسلامي عندما حصد الأغلبية العظمى من مقاعد البرلمان وحشر الأحزاب العلمانية الكبيرة والعريقة مجتمعة في زاوية ضيقة لا تتعدى ربع المؤسسة التشريعية، ومن ثم زحف على كرسي الرئاسة وتم تحييد الجيش، وأخيراً كسب الجولة القانونية في أعلى محكمة في البلاد إيذاناً بفرض الهيمنة الكاملة على الدولة التركية.

وفي الخارج نجحت الدبلوماسية التركية في اختراق الحواجز النفسية والتاريخية التي تركتها الإمبراطورية العثمانية على العالم العربي تحديداً لتعود من جديد عبر بوابة الإسلام السياسي أيضاً، ولتكسب ثقة وترحيب العرب في غالبهم الأعم، ولعل امتداد الإسلام السياسي في العديد من الدول قد مهد الطريق للقبول التركي في الشارع العربي إضافة إلى شرعية النموذج التركي نفسه، والمستمدة من الديمقراطية وأصوات الفقراء والمحرومين.

ثم جاءت الحرب الصهيونية الأخيرة على غزة لتتوج دور ومكانة تركيا الأردوغانية في العالم العربي، ليس فقط كرمز سياسي إقليمي جديد، إنما كقوة واعدة وعمود فقري يمكن أن يعيد أمجاد العرب في الصراع مع إسرائيل.

وكما فعلت الحكومة التركية في الداخل، فقد مارست النهج المزدوج القائم على مبدأي الاعتدال الإسلامي والتقية السياسية في الخارج، فبلعت الموروث التاريخي العلماني الثقيل المتمثل في العلاقات التركية-الإسرائيلية ولم تتنكر لها سريعاً بل حاولت الاستفادة منها في لعب الوساطة غير المباشرة بينها وبين سورية، وفي الوقت نفسه صفعت الحكومة التركية الكيان الصهيوني بقوة غير مسبوقة كانت بمنزلة الماء البارد الذي يشفي غليل قلوب الملايين من العرب والمسلمين الغاضبة على مجازر غزة، ثم جاءت الضربة القاصمة التي وجهها الطيب أردوغان لشمعون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي وأمام مرأى ومسمع العالم أجمع، الأمر الذي أكسبه بطولة ورمزية طالما افتقدها العرب على مدى نصف قرن من الزمن.

فقد كانت بالفعل إشارة ذكية من رئيس الوزراء التركي بأن ينسحب من مؤتمر دولي في شأن الأزمة المالية الخانقة ويستبدل خلالها رضا العرب والمسلمين في مقابل ضرب عرض الحائط بالغرب من حلفاء إسرائيل، ولعل الذكاء التركي قد أصاب الهدف مرة أخرى في رسم برنامج استراتيجي مهم وذي حضور فعال في الشرق الأوسط أمام المؤشرات البينة للتقوقع الأميركي إلى الداخل وهشاشة الدور الأوروبي في المنطقة إضافة إلى الفيتو الذي تفرضه القوى الأوروبية الرئيسة على دخول تركيا إلى النادي الأوروبي.

فمع العرب وعبر بوابة الثقة المتجددة وأمام الفراغ السياسي للزعامة الإقليمية الذي تركته الأنظمة العربية، خصوصاً أثناء العدوان على غزة يطل الأتراك برؤوسهم كحماة للعرب ضد إسرائيل، ولكن هذه المرة باستقبال حاشد من قبل الشعوب العربية أنفسهم!