لم يواجه مجلس الأمن منذ تأسيس الأمم المتحدة عام 1945 في سان فرانسيسكو مسألة عويصة ومعقدة مثلما هي مسألة دارفور وتداعياتها القانونية والسياسية والانسانية، ولعل عنوانها الحقيقي هي تسليم رئيس دولة «مطلوب للعدالة» كما تم الادعاء عليه، الأمر الذي يضع مسألة سيادة الدولة وحصانة رئيسها موضع تساؤل وإعادة نظر، لاسيما بما يتعلق بقضايا حقوق الانسان، ناهيكم عن نظام العلاقات الدولية ككل!

Ad

بعد تحديد المدعي العام لويس مورينو أوكامبو للمحكمة الجنائية الدولية اثنين من المشتبه فيهما بارتكاب جرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بما فيها القتل والاغتصاب والتعذيب والتطهير والترحيل والطلب بايقافهما، وذلك بناء على تكليف وإحالة من مجلس الأمن الدولي (فبراير 2007) واقتناع هيئة المحكمة بأن عناصر الإثبات التي قدمها المدعي العام كافية لإصدار مذكرة توقيف بحقهما، بدأ مسلسل الأحداث الدرامي يتواصل، سواء بملاحقة الوزيرين في حكومة الرئيس عمر حسن البشير، أحمد هارون وزير الشؤون الانسانية وعلي كوشيب رئيس ميليشيا الجنجويد، أو برفع سقف المطالب حينما وجه المدعي العام التهمة إلى الرئيس البشير، وطلب من المحكمة إصدار مذكرة توقيف بحقه! ولعل مثل هذا الأمر جعل التداخل سافراً بين ما هو سياسي وما هو قانوني.

ويوم طولب الرئيس البشير بتسليم الوزيرين أقسم بأغلظ الأيمان على عدم تسليم المتهمين أو أي مواطن سوداني، فهل يا تُرى سيوافق على تسليم نفسه، الأمر الذي يحمل معه تداعيات قانونية وسياسية خطيرة ليس على السودان والعالم العربي وإفريقيا فحسب، بل على قضية العدالة الدولية؟ ولعل هناك اشتباكاً وتداخلاً في علاقة السياسة بالقانون، وعلاقة مجلس الأمن بمسألة العدالة الدولية، خصوصاً أن هناك كثيرا من الشكوك تحوم حول مصداقيته، وذلك بسبب ازدواجية المعايير وانتقائية المواقف التي يتخذها بحق بعض البلدان التي لا تروق سياساتها لواشنطن، ناهيكم عن الدور المهيمن الذي تلعبه الولايات المتحدة على الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بشكل عام، ولعل ما حصل في العراق وأفغانستان يدل دلالة واضحة على مدى التحكم، بل والتلاعب، بالقرار الدولي، لكن مثل هذا الأمر لا ينبغي أن يلغي أو يستبعد مسألة ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم على المستوى الدولي بغض النظر عن الممارسات الخاطئة والسلبية.

وإذا كان وقوع جرائم في دارفور أمرا مؤكدا، وهو يقتضي من المجتمع الدولي، بل يكون من واجبه ملاحقة المتهمين بها بموجب النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي دخلت حيّز التنفيذ 2002 والتي تشمل ولايتها القضائية العالم كله، فإن السكوت عنها أو تبريرها تحت أي حجة أو ذريعة مهما كانت أمرٌ غير مقبول، بل مستنكر ومدان، خصوصاً الجرائم الجسيمة والانتهاكات الفادحة!

وإذا كانت المحكمة قد أصدرت في العاشر من يوليو 2008 بياناً أوضحت فيه أنه في ضوء قرار البعثة الدولية في دارفور وتحقيقات المحكمة والأدلة التي توصلت إليها، فإنها أحالت القضية الى مجلس الأمن الدولي، وفي 14 يوليو الماضي طلب المدعي العام من المحكمة ضبط الرئيس السوداني ونائبه واحضارهما للمحاكمة مستعيناً بمجلس الأمن.

لقد أثارت هذه المسألة انقساماً في مجلس الأمن لاسيما بعد تقدم المندوب الليبي والجنوب افريقي بطلب أو باقتراح وربما بدعم من روسيا والصين بوقف اتخاذ أي إجراء من جانب المحكمة الجنائية الدولية إلى حين اتخاذ قرار يهدف إلى تمديد تفويض قوة حفظ السلام المختلطة في دارفور التي سيكون أجلها قد انقضى، لكن واشنطن وباريس عارضتا الطلب بشدة، خصوصاً ربط التفويض بوقف الاجراءات، ولكن بموجب المادة 16 من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يمكن لمجلس الأمن أن يصدر قراراً يوقف تحقيقات المحكمة أو إجراءات المقاضاة لمدة عام.

وهكذا تم التوصل إلى «حل وسط» لاسيما في الفقرات التمهيدية، علماً بأن بريطانيا وفرنسا كانتا قد مثلتا الاتحاد الأوروبي، الذي وافق على إرجاء إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس البشير، وقد وافق الأوروبيون على حذف الإشارة الواضحة التي طالب فيها مجلس الأمن الخرطوم بتلبية متطلبات المحكمة الجنائية الدولية، بتسليم المتهمين للعدالة، لكن المسألة ستبقى قائمة، خصوصا مع وجود جرائم بحق الإنسانية ووجود تهم محددة، لذا فما هي السيناريوهات المحتملة بعد الحل الوسطي المؤقت؟

السيناريو الأول القائم، هو رفض السودان هذا القرار، ولعل هذا الأمر سيؤدي إلى إحالة القضية إلى مجلس الأمن الذي بدوره سيتّخذ قراراً بشأن الخطوات اللاحقة، فإما انه سيغلق القضية أو يحفظها أو يؤجلها لأسباب سياسية، وإما سيطلب من السودان تنفيذ قرار المحكمة بتسليم المتهمين، وفي حال امتناعها فسيتخذ التدابير التي يراها ضرورية، بما فيها تطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الخاص بالعقوبات، لاسيما المادة 41، وقطع العلاقات الدبلوماسية وفرض العقوبات والحصار، وقد يصل الأمر إلى استخدام الوسائل الحربية.

السيناريو الثاني، التشبّث بالعلاقة مع الصين وروسيا، عضوي مجلس الأمن الدائمين، باستخدام حق الفيتو الممنوح لهما بموجب الميثاق. لكن التعويل على المعارضة الصينية والروسية أمر غير مضمون، فمصالح الصين مع واشنطن والغرب كبيرة جداً، ولها علاقات اقتصادية وتجارية بالمليارات، ولذلك فسوف تخشى من الوقوف مع الخرطوم إلى النهاية، أما روسيا فعلاقتها بالغرب وأوروبا وأميركا تحديداً واسعة ومتنوعة ولا يمكنها الاستغناء عنها لحساب عيون الخرطوم، حتى في ضوء التطورات الأخيرة المتعلقة بالأزمة الروسية الجورجية، لذلك فليس من المنطقي أن يكون هذا الخيار مناسباً. أما خيار الوساطة فإنه هو الآخر قد لا يؤدي الى النتيجة المطلوبة في ظل تعنت واشنطن.

السيناريو الثالث، هو الخيار القانوني. فقد يكون إعطاء فرصة لتأجيل تنفيذ القرار أمراً مهمّاً بالتعويل على بعض المتغيرات في الوضع الدولي، لاسيما في ضوء اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية (أواخر عام 2008)، والتقدّم بطلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية في لاهاي بشأن قانونية طلب المحكمة الجنائية الدولية تسليم مسؤولين رفيعي المستوى، وهم في قمة المسؤولية بما فيهم الرئيس السوداني إلى القضاء الدولي. وهناك أكثر من سابقة بذلك.

السيناريو الرابع، هو إحالة المتّهمين «باستثناء الرئيس»، إلى القضاء الوطني السوداني بحضور مراقبين دوليين وبنزاهة وشفافية قضائية لتحديد مسؤولية ما حصل في دارفور، وإنزال العقاب بمن يثبت تورطه بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، أو جرائم الإبادة الجماعية، والتطهير والقتل والتعذيب والاغتصاب والترحيل الإجباري وغيرها، إضافة إلى جرائم الحرب بغض النظر عن مواقع المسؤولية في السلطة أو خارجها.

أما السيناريو الخامس، ولعله الخيار الداخلي الوطني، الذي يتطلب تعزيز التعاون بين القوى الوطنية السودانية في السلطة وخارجها، من الموالين لها ومن معارضتها، وذلك بإشاعة الحريات الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان والخصوصيات القومية والدينية واللغوية، وتأمين حقوقها السياسية والمدنية، وإقرار التعددية والمساواة والمواطنة الكاملة، وإرساء حل المشكلة الجنوبية، وتحديد موعد للانتخابات الحرة بإشراف دولي وإقليمي وعربي نزيه، وتفعيل اتفاقية أبوجا والاتفاقيات السياسية جميعها بين السلطة ومعارضتها، وقد يمكن لهذا الطريق أن يجنب السودان مخاطر التمزق والتشظّي، ويساعده في مواجهة التحديات الخارجية، ويضعه على الطريق الصحيحة لتحقيق العدالة!

* باحث ومفكر عربي