هل الشعر بحد ذاته يستحق كل هذا الجهد والبحث والتضحية والمعاناة، لأجل أن يكتسب كاتبه صفة الشاعر؟ أم أن للشعر بريقا مغناطيسيا يجذب به كل الحالمين بكينونة الشاعر، مسلوبين ومسحورين بندائه السحري، مضحين بكل شيء لأجله، منسلخين من كل المهمات الحياتية، مجندين لكتابة الشعر، مهرولين خلف بريقه وسحره وشهرته، منذورين لسراب الخلود ووهمه وعبثية حياة وامضة.
قال لي شاعر مشهور: يجب أن نمتن للمعاناة لأنها تأتينا بالشعر العظيم. قلت له: «يلعن أبو الشعر» إن كان لا يأتينا إلا عن طريق الألم. أكتب هذا المقال بعد أن قرأت كتابين للسيرة الذاتية صادرَين عن سلسلة إبداعات عالمية، التابعة للمجلس الوطني للثقافة والفنون في الكويت، الكتاب الأول باسم «امرأة وحيدة» وهو سيرة الشاعرة الإيرانية «فروغ فرخزاد»، التي ضحت بسمعتها وتخلت عن زوجها وطفلها وتحدت مجتمعها كله لأجل كتابة الشعر، أو كما تقول في مقابلة لها: «الشعر أمر جدي بالنسبة إليّ، إنه مسؤولية أحملها تجاه كينونتي، هو نوع من الإجابة أشعر وكأني مجبرة على إعطائها لحياتي، لا أبحث عن شيء في قصائدي، بل أكتشف نفسي من خلال قصائدي». لا أحد يستطيع أن ينكر قيمة شعرها، خصوصا أنها جاءت كأول شاعرة تعبر عن الأحاسيس الرومانسية بصراحة فاضحة، وخصائص أنثوية مميزة وحداثة، وجدّة لم تكن معروفة من قبلها، لكنها باعت كل شيء في سبيل هذا الشعر، عاشت حياتها في القصيدة، وشعرها هو سيرتها الذاتية، لم تخبئ حياتها ولم تختف ِخلف الرموز، عاشتها بمجون، وكتبتها كما هي وانتهت بموت فجائعي عن عمر 32. قد أبدو رجعية في نظرتي هذه إليها، لكن كيف يستطيع الإنسان أن يعيش حياته كما يريد من دون أي اعتبار لمشاعر الآخرين؟ ومَن هؤلاء الآخرون؟ الأم، الأب، الإخوة، الزوج، الأبناء، كيف تعيش الحياة من دون أدنى اعتبار لمشاعرهم؟ كيف نفصل الحدود بين حياتنا وحياتهم إذا كانت دماؤنا مشتركة؟ كيف استطاعت أن تتخلى عن طفلها، لأجل أن تعيش حياتها في قصيدة حروفها أتت من وجع الصغير؟ أنا لا أحاكمها، لكني أستغرب من هذه الهرولة صوب الشعر، وهو ما ينطبق على حال الكتاب الآخر وهو رواية «الشباب» للروائي العالمي ج.م.كويتزي الحاصل على عدة جوائز أدبية، من أهمها جائزة نوبل 2003، والرواية هي سيرته الذاتية عن فترة السنوات الخمس من عمر 19 إلى 24 سنة، وهي الجزء الثاني من بعد كتاب مرحلة الطفولة، وفي هذه السيرة يتحدث عن حلمه العظيم بأن يصبح شاعرا، وعن خوفه من عدم الوصول إلى هذا الشعر، ولأجل أن يصبح كاتبا وشاعرا، وهو الحلم الذي لازمه منذ طفولته ومراهقته وشبابه، عاش حياة كلها التزام صارم وجدية ووحدة رهيبة، حتى أنه غادر أسرته بعمر المراهقة ليتحرر من حب أمه له، وأن يتخلص من كل العلاقات الأسرية المكبّلة بالعاطفة، وأن يتخلى عن كل الارتباطات حتى عن الوطن. يذهب من جنوب أفريقيا إلى لندن ليعيش فيها وحيدا، يشتغل كعالم برمجة في شركات الكمبيوتر الكبرى، ويحلم بالشعر والكتابة ليل نهار، ويتخلى عن عمله ليتفرغ للكتابة، ولا يأتي هذا الشعر، ولا هذه الكتابة، وتحوطه الوحدة لدرجة تدفعه إلى أن يصدم الناس كي يتبادل معهم حواراً، حتى إن كان على شكل اعتذار. الكتاب بلا شك رائع والسيرة عميقة في سبر أغوار النفس البشرية، وما يريده الإنسان من حياته التي يحياها. ولكن ما أقصده هنا هو هذا السعي خلف الشعر، حتى إن أدى إلى تدمير كل العلاقات المرتبطة بالشاعر، والتي لها أهميتها وضرورتها الإنسانية والحياتية. الشاعر في رأيي يولد بروح الشعر، لا يسعى إليه، بل هو يأتيه من تلقاء ذاته ويداهمه على غفلة. الشعر روح تولد مع صاحبها حتى إن لم يمارس كتابة هذا الشعر، قد يكون طبيبا أو شاعرا أو مهندسا أو قاضيا، وهو ما ينعكس على سلوك الإنسان برقي الإحساس ورهافة إنسانيته، وهذا في رأيي هو جوهر الشعر ولبّه.
توابل
هذا الشعر
08-09-2008