إنه جميلٌ... ولكن!
ليس لسنوات بل لعقود طويلة، بقي «الشموليون» يرددون تلك المقولة البائسة التي تتحدث عن ان العرب من المحيط الهادر الى الخليج الثائر غير مؤهلين للديموقراطية، وانه لايزال من المبكر جدّاً ان تتم تنحية كرابيج الحكام وهراواتهم من فوق رؤوسهم، وان حال هؤلاء الناس لاتزال يصح فيها ما قاله المتنبي في كافور الأخشيدي: لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجـاس مناكيــدوبالطبع فإن هذا الكلام عيبٌ ما بعده عيب، وهو غير صحيح على الإطلاق وإنه لا صحة لما يقال إن الديمقراطية لاتزال وصفة مبكرة جدّاً لشعوب هذه المنطقة، التي لا تستحق ان تتمتع بهذا الترف الحضاري، لأنها لم تتأهل بعد لارتقاء المنصة الإنسانية التي ارتقتها شعوب الغرب المتقدمة، والتي لم تصل الى ما وصلت إليه إلا بعد كفاح طويل ودفع أثمانٍ غالية. إن الشعب الهندي، مع كل الاحترام والتقدير والمحبة له، ليس أكثر تقدماً من الشعوب العربية، لكن ومع ذلك فإن ديمقراطيته التي انطلقت في أربعينيات القرن الماضي تعتبر الآن من أكبر الديمقراطيات في العالم وأعرقها، والسبب هو ان الأحزاب والقوى التي اجترحت إنجاز الاستقلال وإزالة الاستعمار البريطاني فعلاً لم تحاول حرق المراحل، ولم يتحول قادتها الى مبعوثي عناية إلهية ملهمين على غـرار ما حصل بالنسبة الى التجربة العربية، التي سُحقت بجنازير الدبابات قبل ان ترى النور. خلال مرحلة الاستعمار البريطاني جرى تلقيح الشعب الهندي، الذي هو شعب شرقي ويتلوَّن بالكثير من الملل والنِّحل والذي لايزال بعض فقرائه يسكنون أرصفة الشوارع بعد ستين عاماً من الاستقلال، بالديمقراطية جرعة بعد جرعة وعلى طريقة تلقيح الأطفال هناك بسموم الأفاعي ولهذا فإن ديمقراطيته باتت تعتبر أكبر الديمقراطيات وأعرقها... ولذلك فإن الهند أصبحت في طليعة الدول المرشحة لتتبوأ المركز القيادي العالمي إن ليس على المدى القريب ففي الثلث الأخير من هذا القرن. يقول الحديث النبوي الشريف: «إن المنـْبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى»... والمنبت هو المستعجل أكثر من اللزوم الذي ليقطع المسافة بأسرع من المفترض ينهال على راحلته ضرباً ورفساً الى ان يقتلها، وتكون النتيجة أنه لم يستطع الوصول الى مبغاه في الوقت الذي أراده، وانه فقد راحلته التي كانت بواقع ذلك الزمان البعيد بقيمة طائرة أو سيارة باهظة الثمن. لقد مرَّ الأردن بهذه التجربة في منتصف خمسينيات القرن الماضي عندما أراد الملك حسين، رحمه الله، أن يزرع نبته جميلة في صحارى العرب الموحشة بعد عودته من الدراسة في معاهد الغرب ومدارسه، وأن ينتقل البلد الذي تسلم أمانة قيادته من صيغ الحكم العثمانية القديمة الى الديمقراطية في أرقى أشكالها، لكن محاولته تلك ووجِهت بالعقليات الانقلابية وبظاهرة أبراج الدبابات، فجرى اغتيالها وهي لاتزال في بداية ربيع العمر وبهذا فقد خسر الشعب الأردني أكثر من ثلاثين عاماً من عمر مسيرته. إنه جميلٌ ومبعث فخر للعرب كلهم ان تكون في الكويت هذه الديمقراطية النشيطة القاطعة كحدِّ السيف... لكن، وهذه ليست نصيحة وإنما مجرد ملاحظة صديق حريص، لابد دائماً وأبداً من الاقتداء بهذا الحديث النبوي الشريف الآنف الذكر.* كاتب وسياسي أردني