الغاضب... المتجهم... صاحب الشعبية!

نشر في 26-08-2008
آخر تحديث 26-08-2008 | 00:00
 حمد نايف العنزي نحن نعيش اليوم بلا شك، في زمن التطرف، والتعصب، والغضب، والأصوات العالية، تطرف فى كل شيء، وغضب علي أي شيء، وتعصب لأي شيء، أينما وجهت نظرك في هذا العالم العربي والإسلامي، يمينا أو شمالا، شرقا أو غربا، سترى الوجوه نفسها المتجهمة، والملامح الغاضبة، وستسمع الهتافات المتعصبة نفسها، والاتهامات المتبادلة، فلم يعد أحد يحب التعقل والمتعقلين، أو يحترم الاعتدال والمعتدلين.

صخب، وضجيج، وصراخ فى كل مكان، الصوت العالي يثبت وجوده مرارا وتكرارا، وأصحابه، وحدهم، من يكسب الرهان دائما، ومن يتسيد الساحة بلا منازع، ففي غفلة من الزمن، أصبحت الأوداج المنتفخة، والعيون المحمرة، والحناجر المدوية، أكثر إقناعا من المنطق، وأقوى حجة من العقل، وأسرع طريقا لقلوب الناس، وفقد المعتدلون والمتعقلون كل شعبية لهم، فما عاد أحد يرغب في أن يسمع لهم قولا، أو يتبع لهم رأيا، حتى ضاعت أصواتهم وسط صراخ الصارخين، وغضب الغاضبين، وتعصب المتعصبين!

استعرض في ذاكرتك، عزيزي القارئ، أسماء شيوخ وفقهاء الدين، وأجب، من أكثرهم شعبية وتأثيراً وتقديرا عند أغلبية الناس؟!

إنهم بلا شك، المتعصبون لمذاهبهم، المتزمتون في أفكارهم، المتشددون في فتاواهم، المتسلطون على آراء ومعتقدات الآخرين، وهم، شئنا أم أبينا، الأكثر قبولا عند عموم الناس، وفتاواهم المتشددة والمتعصبة هي المعتمدة عند الأغلبية، وتسجيلات خطبهم «الغاضبة» هي الأكثر طلبا ورواجا، وكتاباتهم هي الأكثر قراءة، وبرامجهم التلفزيونية هي الأكثر مشاهدة!

وإن نظرة واحدة الى المساجد وساحاتها الخارجية ساعة صلاة الجمعة، لتستدعي منا التأمل والتفكر، حين نراها وقد امتلأت بالمصلين (والبائعين) كلما كان الخطيب من الغاضبين المزمجرين المهددين المتوعدين الناس في مشارق الأرض ومغاربها، بالويل والثبور وعظائم الأمور، وتخلو، أو تكاد تخلو، إلا من عدد قليل من المصلين، حين يكون الخطيب هادئا في خطابه، متوازنا في رأيه، متعقلا في طرحه!

في الانتخابات البرلمانية، القاعدة معروفة، فصاحب الصوت العالي، والصرخات المدوية، والتهديد والوعيد، هو الأكثر شعبية والأوفر حظا في حصد الأصوات، وخصوصا، حين يحظى صراخه هذا بالدعم من قبل أبناء القبيلة أو الطائفة، ولعل هذا ما جعلنا نشاهد استعراضا مميزا للحناجر الغاضبة في انتخاباتنا الأخيرة، حيث راح المرشحون كافة، إلا من رحم ربك، يزمجرون ويتوعدون الوزراء بالاستجواب، قبل أن يعرفوا حتى تشكيلة الحكومة القادمة، وأنهم سوف يرجعون الحقوق الضائعة كلها للمواطن، وسينتصرون لكل مظلوم، مع تقديم وعودهم المستحيلة التحقيق، ومع ذلك، فقد أثبتوا أن الصراخ مقنع، وأن الصوت العالي مبهر، وذو «كاريزما»، ويستطيع التفوق بسهولة على أي مرشح عقلاني، يحدث الناس بكل صراحة عن الممكن والمستحيل في العمل البرلماني، ويبلغهم ببرنامجه الانتخابي بصدق، ويقول لهم الحقيقة مجردة بلا كذب أو مواربة، ومن دون أن يبيعهم الأوهام، ومع هذا، يفوز المرشح «الصّريخ» بفارق كبير!

في الصحافة، يبحث قسم كبير من القراء في الغالب، عن المقالات البعيدة كل البعد عن النقد الصادق، التي «يشرشح» فيها الكاتب الكبير، فلانا أو علانا من الناس في شخصانية واضحة، ومن المستحسن والمرغوب أن يكون فلان هذا، شخصية عامة ذات ثقل كبير، أن يكون وزيرا مثلا، أو نائبا في البرلمان أو زعيما دينيا، وكلما كانت «الشرشحة» معتبرة، وعلى مستوى عال من الألفاظ غير اللائقة، كبر الكاتب في عيون قرائه، وكلما تابعوا مقالاته أكثر فأكثر، فهو يبرِّد قلوبهم و«يفش خلوقهم» ويقدم لهم تسلية يومية، وهذا يكفيهم، لكي يصبح كاتبهم المفضل على الدوام، ولا داعي للبحث عن أسباب هذه الشرشحة، وهل هي أسباب شخصية، أم هي لأجل المصلحة العامة؟ فهذا غير مهم إطلاقا عند القارئ العزيز!

وفي الفضائيات، يكون ضيف البرامج الحوارية «الثوري» العصبي المتشنج، الذي يتهم الجميع بالعمالة والجبن والخيانة والصهينة، هو الأكثر قبولا وإقناعا عند جمهور المشاهدين، حيث يتعاطف معه الجميع، ويتجاوبون مع ما يقوله، ويؤيدون نظرياته التآمرية كلها، حتى إن كانت هذه النظريات لا تحمل ذرة من المنطق والعقل، ولا يصدقها ساذج!

نحن، أيها السادة، شعوب تكره الحياة، شعوب غير سعيدة، غاضبة، ساخطة على أوضاعها وظروفها وتراثها وتاريخها، لكننا لا نعترف بذلك، والأسباب كثيرة ومعروفة، ولدينا رغبة عارمة في أن نفرغ غضبنا وسخطنا في مَن حولنا، لكننا أجبن من أن نفعل، ولذلك عشقنا الصارخين والمتجهمين والغاضبين، فصرخاتنا تجري على حناجرهم، وتجهمنا يرتسم على وجوههم، وغضبنا تخطه أقلامهم، وحين نراهم، نرى أنفسنا، فنحن جميعا أبناء هذا الزمن، زمن الإنسان الغاضب، المتجهم، صاحب الشعبية الكبيرة بلا منازع، ولذلك كثر بيننا الإرهابيون، وازداد الدجالون بأنواعهم كافة، الدينيون والسياسيون والمثقفون، وعمَّ الفساد والفاسدون، ولن تتغير أمورنا ما لم نتغير نحن، من الداخل، فما هم سوى انعكاس لذواتنا!

back to top