ربما استوت الولايات المتحدة مثالا لافتا ومثيرا، وقد يكون نادرا، على قوة امتلكت ومازالت تمتلك أسباب الغلبة ولكنها أخفقت في تحقيقها أو لم تستتبّ لها إلا لبرهة من الزمن وجيزة، بضعة أعوام من عهد رئيسها الحالي والآفل وشيكا، شهدت أوج الانفراد الأميركي بمقدرات العالم كما شهدت انفراط ذلك الانفراد. إذ تقدم الولايات المتحدة مثالَ تفاوت مفارقٍ صارخ بين مواصفات فيها موضوعية، تبوّؤها منزلة القوة العظمى الوحيدة في العالم، وإخفاقها في ترجمة تلك الأرجحية الموضوعية إلى غلبة أو إلى هيمنة استراتيجية وسياسية مستدامتين، مع أنها لم تألُ في ذلك جهدا ومسعى حثيثيْن. إذ لا غرو ولا جدال في أن الولايات المتحدة تظل، بالرغم من مشاكلها في العراق ومن خيبتها في أفغانستان ومن انكفائها عمليا أمام الهجمة الروسية في جورجيا، الآلة العسكرية التي لا تضاهيها أخرى في العالم تتجاوز منافسيها المحتملين على ذلك الصعيد بفارق شاسع لا يُدرك، وهي إلى ذلك صاحبة الاقتصاد الأول، حجما ونوعا، الأكثر مطابقة لواقع العولمة، تلك التي كان لها السبق أو الريادة في اجتراحها، وهي لذلك الأكثر استجابة لمنطقها ومعاييرها ومتطلباتها. ثم إن الولايات المتحدة مركز الإشعاع الثقافي بلا منازع على الصعيد الكوني، خصوصا في ما يتعلق بالثقافة الموصوفة خطأً وتجاوزاً بـ«الشعبية» في حين أن وصف «الاستهلاكية» هو الأصح فيها، تتوجه إلى مستهلك نمطي، عابر للثقافات وللحضارات، التقت أذواقه في الأخذ بأدنى، إن لم نقل بمتدنٍّ، مشترك. ليس من دولة في العالم اجتمعت فيها كل عوامل القوة هذه وأسبابها، وليس من إمبراطورية كان أوجها وجيزا شأن الولايات المتحدة، وتلك ظاهرة قد لا تخلو من فرادة، تتطلب مساءلةً وتستدعي سبراً. فأين أخطأت الولايات المتحدة إذن؟

Ad

ربما كان أخطر قرار اتخذته إدارة بوش، متذرعة بعدوان الحادي عشر من سبتمبر، أنها أقدمت على عسكرة الوجود الأميركي في العالم، وهو ما عنى، بالنظر إلى تأثير الولايات المتحدة وأرجحية نفوذها وتحكمها في مجريات الأمور الكونية، عسكرةَ الحياة الدولية بأسرها وتعطيل كل أوجهها ومناحيها الأخرى من سياسية ودبلوماسية وسواها. أفضى ذلك إلى إرساء حالة استثناء، عبرت عنها إدارة الرئيس بوش، ومنظّروها من المحافظين الجدد بإطلاق مبدأ «من ليس معنا فهو ضدنا»، في ما قد يكون استعادة فجة لنظرية للفيلسوف الألماني، والنازي الهوى، كارل شميت، الذي رأى أن مبدأ السياسة، لبّها ومنتهاها وتعبيرها الأقصى، إنما هو «التمييز بين العدو والصديق».

غير أن تلك الاستعادة زايدت على الأصل وتخطته، فحيث تصور الفيلسوف الألماني المذكور «عداءً وصداقة» بين دول و/أو قوى سياسية، وحدد بذلك العدو أو الصديق بوصف كل منهما ذاتا وفاعلا سياسييْن، نزعت البوشية عن الخصم الذي يعاندها أو عن المعترض على سطوتها يواجهها بالرفض، كل صفة سياسية، وحشرتهما في خانة الإجرام المحض، دولا «مارقة» أو جماعات «إرهابية»، يمثل «مروقها» أو «إرهابها» إشكالا أمنيا، من مصاف التهديد الوجودي، ووصمة أخلاقية، ويقعان في مجال ما دون السياسة. خلفية تلك النظرة استنتاج مفاده أن الولايات المتحدة لم يبق لها بين الدول العادية والقوى السياسية التقليدية من أعداء. ليس لأن العالم، في ما عدا أولئك «المارقين» و«الإرهابيين»، أجمع على حبها، بل لأنها بلغت من السطوة ما يجعل معاداتها أمرا غير وارد لا قبل لطرف، وهي التي ركّعت وأزاحت قوة بحجم الاتحاد السوفييتي السابق، بالنهوض به. وهكذا، اعتقدت أنها ألغت العداء، بمعناه التقليدي أو الكلاسيكي، وأرست «سلاما أميركيا» (pax americana) في العالم وأعلنت سيادتها على هذا الأخير، تنفرد فيه بقرار الحرب والسلام، على ما دلت السياسة الأحادية التي توختها في أوج جبروتها، لاسيما لدى غزوها العراق. قام المنطق الكامن وراء تلك النظرة على الاطمئنان إلى امتلاك وسائل الردع، على نحو غير مسبوق في التاريخ البشري، وإلى القدرة على سحق أي عدو، بحيث لم تبق من مواجهات ممكنة إلا مع تلك القوى «المارقة» أو «الإرهابية»، وذلك ما اعتبرته الولايات المتحدة مهمتها الرئيسة فشنت حملتها الكونية المعلومة ضد «الإرهاب»، وهو ما كان مقتل استراتيجية إدارة بوش وما أفضى إلى تلك الإخفاقات موضوع حديثنا هنا.إذ لا تعود تلك الإخفاقات إلى هنات وثغرات في خوض تلك الحملة، بل إلى مبدأ هذه الأخيرة نفسه. ذلك أن إدارة بوش اختارت استهداف أطراف لا ترتدع ويتعذر سحقها بواسطة القوة، أي أنها قوى تُبطل عمليا أبرز وسيلتين أميركيتين: فلا الردع مُجد في إثنائها، على ما هي حاله مع الدول، ولا القوة تُواجه بحرب العصابات التي تلغي تفوقها، فاعلة في الإجهاز عليها. وهكذا، وجدت القوة العظمى الوحيدة نفسها عاجزة تمام العجز في مواجهة قوى لا تُقهر بطبيعتها، طالما أن استراتيجيتها تنحصر في منع استتباب الأمور للولايات المتحدة، وذلك في متناولها، حائلة بذلك دون إرساء ذلك «السلام الأميركي»، ولعل في حالتي العراق وأفغانستان ما يبرهن على ذلك على نحو بليغ.

كل ذلك نال من مصداقية الولايات المتحدة في اضطلاعها بوظيفة القوة العظمى الوحيدة وساعد في إرخاء قبضتها على العالم... قد لا يكون السبب ذاك هو الوحيد الفاعل في تفسير انكفاء السطوة الأميركية ولكنه على الأرجح أحد أهم أسبابه.

* كاتب تونسي