دلالات وتداعيات الهدنة

نشر في 20-06-2008
آخر تحديث 20-06-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد ليست هذه هي المرة الأولى التي تبدأ فيها «حماس» هدنة أو اتفاقاً غير مباشر لوقف اطلاق النار من أو ضد غزة مع اسرائيل. وبالطبع فهذا الاتفاق معرض مثل الاتفاقات التي سبقتها في 2005 و2006 للانهيار.

ومع ذلك فمجرد تدشين هذا الاتفاق في هذه اللحظة له دلالات كثيرة وإيجابية. أهم هذه الدلالات أن ثمة توجهاً نحو الاعتدال في حركة «حماس». ويؤكد هذا المعنى أنها قبلت اتفاق الهدنة الذي توسطت فيه مصر بالرغم من أنه أقل ايجابية لها بكثير عن اتفاقي الهدنة السابقين. فالواضح أن «حماس» وغزة عموماً تحتاجان بشدة لهذا الاتفاق لإنعاش أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الصعبة ولو تم ذلك على مدى ثلاث مراحل وليس كمرحلة واحدة كما كان الحال في الاتفاقيتين السابقتين.

النضج الدبلوماسي والسياسي

الاتفاق يؤكد أيضا صحة التحليلات والنبوءات التي تقول إن «حماس» تتغير وستتغير في اتجاه استيعاب أفضل لفنون السياسة مقابل التصرف على ضوء الفتاوى والآراء الدينية وتفضيل الوسائل العسكرية للصراع. وفي هذا السياق يمكننا فهم التصريح الذي صدر عن أحد كوادرها وينتقد فيه تفضيل الحركة للوسائل العسكرية لحسم الصراع وعدم اهتمامها بالنضال الدبلوماسي والسياسي. كما يمكننا فهم أو تفسير الحوار الوطني الذي تخوضه «حماس» مع «فتح» للوصول إلى اتفاق يوقف التصدع الفلسطيني وينهي الأزمة الممتدة منذ يونيو في العام الماضي أو في الحقيقة منذ الانتخابات البرلمانية التي فازت فيها الحركة.

غير أن النضوج السياسي والدبلوماسي سيظل دلالة منقوصة حتى تنطبع في أذهان العالم. إذ يقع هنا المجال الذي فشلت فيه «حماس» أكثر من غيره بسبب الافتقار إلى مفهوم فعال ونشط للسياسة بذاتها. ونجحت إسرائيل في كسب المعركة الإعلامية والسياسية الدولية ضد «حماس»، بل ضد الفلسطينيين عموماً ليس بسبب تمتعها بماكينة إعلامية جبارة والتحيز الغربي فحسب، بل بسبب الجمود الفكري والسياسي لـ»حماس»، أيضاً. ومن المعتقد أن ثمة اتجاهاً ينمو داخل «حماس» يدرك التكلفة الفادحة لهذه الحقيقة وحاجة الحركة إلى حراك وتمكين إعلامي وسياسي ودبلوماسي كبير جداً لتغيير هذا الانطباع السلبي السائد لدى العالم، خصوصا في أوروبا عن «حماس» واختياراتها وسياساتها.

ثمة دلالة ثالثة لتدشين هذا الاتفاق، وهي أن «حماس» والفلسطينيين عموماً بدؤوا يتعاملون كدولة فعلية مع العالم كما هو، وليس كما يتمنونه. فالواقعية السياسية واضحة للغاية في الحركة الدبلوماسية التي قادت إلى هذا الاتفاق. ورغم أن إسرائيل تشعر بالألم الذي تسببه صواريخ «حماس»، فإن المنظمة بدورها بدأت تشعر بتكلفة الأخذ بالمنهج العسكري في هذا التوقيت وفي هذه الظروف الإقليمية والدولية، وأن موازين الردع تميل في الحقيقة لمصلحة إسرائيل وضد «حماس» والفلسطينيين عموماً بصورة لا تقبل الشك. فمقابل مقتل عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في عمليات القصف الصاروخي من غزة فهناك مئات من الكوادر العسكرية الشابة لـ»حماس»، فضلاً عن مئات من المدنيين فقدوا حياتهم في العمليات الإجرامية الإسرائيلية في غزة.

والواقع أن «حماس» لم تنتبه كثيراً لتكلفة النزيف العسكري الذي تتعرض له منذ انبثاق الانتفاضة عام 2000 لأسباب مفهومة، وعلى رأسها الرغبة في الشهادة والنقمة الشديدة ضد العدو الإسرائيلي الغادر والإجرامي. ولكن هذه العوامل لا تكفي لاستمرار حرب غير متكافئة حتى لو أمكن لـ«حماس» تعويض الخسائر البشرية جزئياً مع الزمن. وبوجه عام لا يبدو من الحكمة الاستمرار في خسارة أعداد كبيرة من أبرز المناضلين من دون تحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية كبيرة نظراً للطبيعة الجغرافية الخاصة لغزة المحاطة من جميع الجهات بإسرائيل. ومن الواضح أن «حماس» تدرك هذه الحقيقة وتثمنها سياسياً واستراتيجياً، وهو ما دعاها إلى الاتفاق على الهدنتين الأولى والثانية وتدشين هذه الهدنة الثالثة. ومن هنا تتعامل «حماس» مع الحكومة المصرية بصورة عملية من دون مناشدات أخلاقية أو قومية ومن دون إهمال القدرات والأدوار المصرية في الوقت نفسه.

والواقع أن اتفاق الهدنة الأخير بين «حماس» وإسرائيل يمنح مصر ضوءاً ولمعاناً كانت قد حرمت منه خلال الفترة الأخيرة، ولاسيما بعد الفشل السياسي والدبلوماسي في لبنان وفي العلاقة مع سوريا وعلى المستوى الإقليمي بصورة عامة. ويمكننا أن نعزو جانباً مهما من هذا الانتصار الدبلوماسي لمصر لحقيقة النضوج السياسي لـ«حماس».

التداعيات الاستراتيجية

ورغم هذه العلامات المهمة للنضوج السياسي والاستراتيجي فثمة طريق طويل يجب على حماس أن تقطعه. فثمة أولاً، الضرورة المتزايدة للنضال السياسي والإعلامي على مستوى دولي، وهو أمر له تكلفة كبيرة. ذلك أن أحد أهم مقاييس النضوج لأي فاعل سياسي هو مدى إدراكه لقيمة ودور المجتمع الدولي بغض النظر عن تقييمنا له من حيث العدالة أو غيابها والكيل بمكيالين وغير ذلك من حقائق. ومع الاعتراف بأهمية البندقية والحق الكامل وغير المنقوص للشعوب الواقعة تحت الاحتلال في الكفاح المسلح، فالمجتمع الدولي هو من يحسم في النهاية المستقبل الفلسطيني. الصورة وليست البندقية هي القول الفصل في مستقبل القضية وعلى حماس أن تدرك ذلك وسوف تدركة إن آجلاً أو عاجلاً. وعليها بالتالي أن تكسب معركة الصور والانطباعات، وهي تبدأ من نقطة فاقت إسرائيل فيها نفسها فيما يتعلق بهذه المسألة رغم الحقائق كلها والجرائم جميعها وهذا الزيف كله الذي تعيشه وأعاشت به العالم.

مفهوم واضح للتمكين

والأهم أن على «حماس» أن تسرع من عملية النضوج السياسي وأن تكسب معاركها الإعلامية والسياسية والاقتصادية وسط بعض التداعيات الاستراتيجية السلبية لاتفاق الهدنة.

أهم هذه التداعيات ينبثق من مفهوم الهدنة ذاته في ميدان الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فالهدنة على المستوى الاستراتيجي تعني في الجوهر تجميداً مؤقتاً للصراع. ويعني ذلك غياب اتفاق «سلام» أو تسوية وغياب الألية التي فضلتها «حماس» على غيرها لحسم الصراع، وهي النضال العسكري لوقت ما في المستقبل. وكانت «حماس» تتحدث عن هدنة طويلة الأمد، وهو ما يماثل ما قال به شارون. وفي الحالتين يتجمد الصراع ولا يتم حله سلماً ولا حرباً.

وبهذا المعنى فالهدنة تعني تأسيس وضعية اللاسلم واللاحرب في الحالة الفلسطينية.

وبطبيعة الحال لا يقود هذا الوضع إلى فراغ نضالي. فـ«حماس» تأمل أن يقود اتفاق الهدنة إلى إنهاء الحصار ونجاح تجربتها في بناء وتشغيل جهاز دولة فلسطيني مستقل ومتحرر من الفساد والتدخلات الدولية. وقد تنطلق «حماس» كما انطلقت قبلها الجبهة الإسلامية في السودان بعد انقلاب 1989 من مفهوم بناء دولة إسلامية أو مجتمع إسلامي. ولكن في نهاية المطاف، فالقضية هي كيف تستفيد «حماس» من الهدنة في تحقيق «التمكين» الضروري لاستعادة الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني؟ فثمة ما يدل على الوقوع في الخطأ نفسه الذي وقع فيه الإسلاميون السودانيون بعد انقلابهم، وهو حصر التمكين في المجال العسكري من دون السياسي والاقتصادي والثقافي وغيره، وهو ما ينعكس على طبيعة الصراع المعقد مع إسرائيل.

ولم يتوفر فكر واضح لدى «حماس» حول هذه المسألة. فهي اهتمت بقطع الطريق على المفاوضات التي خاضتها السلطة الفلسطينية بأكثر من وضع وتطبيق البدائل العملية لها. ولكن الواقع يشير بوضوح الى أن «حماس» تتعلم، وأنها قد تهتم بخوض عملية سياسية بالتعاون أو التحالف مع «فتح» للوصول إلى أولى خطوات استعادة الحقوق الفلسطينية المهدرة.

* نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام

back to top