معظم الشعراء يعيشون اغواء التخريب أو التدمير أو ينشدون «الخراب الجميل» في بداياتهم، لكن سرعان ما يتخلون عن شعاراتهم، يتخلون عن التجديف لمصلحة الإيمان كما فعل لوتريامون، أو يصمتون ويتخلون عن الشعر كما فعل الفرنسي رامبو الذي دعا الى خلخلة الحواس وتشويشها، وإلى الانخراط في كل التجارب الجنونية والبوهيمية. هذه الدعوة التي وردت في «رسالة الرائي» لقيت حماسة كبيرة من الشبان الذين يحبون التمرد على كل شيء ويبحثون عن الجديد.

Ad

تأثرت الحركة السوريالية كثيراً بالدعوة الرامبوية، راحت تمارس كل أنواع الشذوذ أو الجنون في شوارع باريس ومقاهيها، إنها حركة للهتك والهرطقة والتشويش على الحياة، نحبهم حين نقرأ عنهم لكن لا نحتمل الإقتراب منهم، من هنا تبدو حركات جماعة السوريالية أقرب الى «غواية الكلمة»، الكلمة تصنع صورة جميلة في الخيال، لكن الأخير حين يطبق في الواقع يغدو في منتهى البشاعة.

الحال أن السورياليين كثيراً ما كسروا الكؤوس والأواني في مقاهي باريس من خلال معارك صاخبة مع بعضهم بعضاً او مع آخرين، وهي معارك مفتعلة لا هدف لها إلا التخريب والمتعة في الخروج على المجتمع التافه. خشيت البورجوازية الفرنسية الخروج على المألوف، وبالتالي دانت ممارسات هذه الحركة التي لا يحترم أنصارها أي شيء. على أن التخريب السوريالي في الحياة لم ينتج نصا جميلاً، باعتبار انه استعراض وتشويش ظاهري وليس باطنياً في جوهر الحواس.

معروفة صرخة رامبو الشهيرة: «ينبغي ان نكون حديثين بشكل مطلق»! أو يقول «دم حديث»، على نحو ما يقول لوتريامون «كل مياه البحر لا تكفي لغسل لطخة دم ثقافية واحدة»! لهذا السبب طلب رامبو من أحد اصدقائه تدمير مجموعته الشعرية الأولى التي كان أودعها عنده. رامبو «الاشراقات» أو «فصل في الجحيم» أراد أن يدمر رامبو الأول تدميراً كاملاً، في الختام انتهى الى الصمت، واصبح صمته لغزاً بالنسبة الى معظم الكتاب الذين يسرفون في الحبر في سبيل معرفة أسرار صمته.

لا.

لوتريامون الذي دعا الى هتك كل الأعراف لم يصمت، انتقل من ضفة الى أخرى، من التدمير الى الهدوء، من التجديف الى الإيمان، راح لوتريامون يتنكر لديوانه الأول «أناشيد مالدورور» ويدعو القراء الى اعتباره لاغياً، لأنه أصبح الآن يتحدث عن الخير لا عن الشر. وأحيانا عندما تقرأ ديوانه الأول ثم ديوانه الثاني»الاشعار» لا تكاد تصدق أن الشخص نفسه هو الذي كتب الديوانين! انقلب على نفسه انقلاباً كاملاً، لم يصمت لوتريامون، انتقل الى ضفة الإيمان ومات في الرابعة والعشرين من عمره، وهو في طريقه الى الجنون.

في العالم العربي، يبدو شعار «التدمير» في غير محله، أو لنقل إنه روتيني ساذج وتقليدي لحركات رامبو او غيره، لئن بدا بعض «الشعراء الرواد» بالدعوة الى التدمير والهتك من باب الاستعراض، لكن دعوتهم انتهت أيضاً في التحاقهم بالكتابات الإيمانية، والغريب أن أنصارهم يمارسون نحوهم ما يمكن تسميته «عبادة الأسلاف»، يقلدون الرواد لمجرد التقليد، فيكون القارئ أمام كارثة من الصفحات البيض او الهلوسات الشعرية التي يمكن وضعها في عداد الموتى قبل تولد.

بكلمة يقول مالارميه: «التدمير كان حبيبتي».