قبل أن تصبح الديموقراطية خطأنا الكبير
«أكبر أخطائي هو اعتقادي أن الديمقراطية الليبرالية بشكلها الحالي يمكن أن تنجح في بلدنا. كان خطأ كبيراً خلق مشكلات كبيرة جداً لنا. لو استقبلت من أمري ما استدبرته، لكنت اتحدث عن الديمقراطية بصورة مختلفة عن الشكل الليبرالي، واتكلم عن ضرورة التوازن والعدالة الاجتماعية والتأصيل. الديمقراطية بشكلها الحالي هذا من دون أقلمة لن تنجح عندنا».من قائل هذه العبارة يا ترى؟ عن أي بلد يتحدث؟ وهل يمكن سحب قوله هذا على بلداننا العربية كلها؟ هل يمكن تطبيق ما قاله على الكويت، خصوصاً بعدما حدث خلال الانتخابات الأخيرة، وما تمخضت عنه؟ وأخيراً، هل تتفق معه؟
القائل هو الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة السوداني، ورئيس الوزراء الأسبق، الذي سعى، كما يقول، إلى تطبيق الديمقراطية الليبرالية في بلاده، لكن الجيش والإسلام السياسي انقضا على التجربة، وعاد السودان مجدداً إلى ما يشبه الحكم العسكري، بعد تجربة «ديمقراطية» قصيرة جداً، أثارت من الجدل والانتقاد والفشل والتقييمات السلبية أكثر مما أعطت من نجاح أو أمل. يُنسب إلى زبيغنيو بريجينسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، في عهد الرئيس «الديمقراطي» جيمي كارتر، قوله لوزير داخلية صدام حسين ناصحاً: «إذا أردتم أن يستقر الوضع لكم فاجعلوا الناس تترحم على أيام الحجاج». العضو المهم في إدارة «الديمقراطي» كارتر، رئيس «زعيمة العالم الحر»، ينصح أحد حلفائه آنذاك بسياسات وممارسات تجعل العراقيين يترحمون على أيام الحجّاج، بكل ما نسب إليه من تسلط واستبداد وديكتاتورية وقسوة في إدارة الحكم.الولايات المتحدة اليوم تعاقب الفلسطينيين على اختيارهم «حماس» لتولي الحكم في انتخابات «ديمقراطية» لطالما عملت من أجلها وبشرت بفوائدها واشنطن. ويدحض زعماء عرب كثيرون حجج واشنطن بتطبيق الديمقراطية والسعي إلى اعتمادها أسلوباً للحكم في بلادنا، مؤكدين أن تطبيق الديمقراطية بالشكل الغربي قد يقود بلادهم، وربما المنطقة كلها، إلى «كارثة».ثمة كلام أيضاً عن أن شعوباً بعينها تحقق أفضل الإنجازات من خلال أنظمة غير ديمقراطية، بل يذهب بعضهم إلى أن درجة معينة من الانفتاح والممارسة الديمقراطية، في مجتمع بعينه، يمكنها أن تضر بمنظومة الإنجاز، وأن تسحب المجتمع إلى قضايا هامشية، وتحول دون المزيد من التقدم. الولايات المتحدة نفسها، ودول أخرى رئيسية في الغرب، بدأت تراجع نفسها اليوم؛ فالعراق الذي كان ملتئماً واقفاً على قدمين، رغم كل أخطائه وكوارثه السابقة، بات اليوم أكثر ديمقراطية... وانهياراً. والدولة المصرية التي اضطرت إلى تقليل السيطرة على الانتخابات البرلمانية الأخيرة، بعد موجات متلاحقة من النقد والترغيب والترهيب، فوجئت بـ 88 إخوانياً يحتلون مقاعد في مجلس الشعب (البرلمان)، وكان من الممكن أن تكون الحصيلة أكبر، لولا «إجراءات اللحظات الأخيرة»، التي جنبت الحكومة فقد المزيد من المقاعد. الأمر ذاته كان قد تكرر في الجزائر والمغرب والأردن، وكأن الانفتاح الديمقراطي مقرون لدينا بمزيد من نفوذ الجماعات الدينية والإسلام السياسي، وكأن أي تقدم يمكن أن نحققه على صعيد الديمقراطية ليس سوى خطوة واحدة إلى الأمام، تأخذنا مكرهين خطوات عديدة إلى الخلف.قالها الصادق المهدي، في الحوار الذي نشرته «الشرق الأوسط» في الخامس من يونيو الجاري: «أكبر أخطائي هو اعتقادي أن الديمقراطية الليبرالية بشكلها الحالي يمكن أن تنجح في بلادنا»؛ فهل يا ترى سيأتي اليوم الذي سيقول فيه قيادي كويتي عبارة مشابهة؟يمكننا أن نتجاوز عن الانتخابات الفرعية، وما حدث خلالها من اصطدام واضح وصريح مع الحداثة ومصلحة البلاد وسلطة الدولة وسيادة القانون. وقد نجد الأعذار فيما يتعلق بنتائج الانتخابات، وعدم فوز امرأة واحدة بمقعد برلماني، رغم الأداء الجيد والسمعة الحسنة، وتزايد حصص السلفيين والقبليين لتصل إلى أعلى معدلاتها. لكن الأمر الذي يضع الديمقراطية الكويتية في خانة الشك ويفقدها اليقين يتعلق بما حدث لاحقاً من تسارع نحو التأزيم، واصطياد المشكلات، والحرص على الفرقعة، وتجاهل أي مصلحة وطنية واضحة، والتركيز فقط على كل ما من شأنه أن يحقق المصالح الضيقة الساذجة لبعض الأفراد والتيارات. أن يفوز نواب بمقاعد في البرلمان عبر انتخابات نزيهة جرت في سياق ديمقراطية توافقية، ضمنت، حتى الآن، لأفراد الجماعة الوطنية الكرامة والأمن والاستقرار، لهو مكسب كبير جدير بكل احترام. ومن ضمن استحقاقات هذا المكسب أن يقبل هؤلاء النواب المتمتعون بنتائج تلك الانتخابات، والمستفيدون من ثمار تلك الديمقراطية، بقواعد اللعبة الديمقراطية كلها؛ وأولها قبول الآخر، فضلاً عن احترامه، واعتبار الديمقراطية وسيلة لإسعاد أبناء الشعب وتحقيق الكرامة والأمن لهم، وليست غاية في حد ذاتها. لكن بعض هؤلاء النواب للأسف يعتبر أن الديمقراطية، وذراعها الإجرائية، الممثلة في الانتخابات، لم تخلق إلا لكي تصل بهم إلى حيث المقاعد والنفوذ والاهتمام الإعلامي، وعند تلك النقطة يقفون، فيرفضون الآخر، ويعادونه قبل أن يسمعوا حججه وذرائعه، بل يعارضون الآخر فوراً وعلى الهوية أو التوجه أو لمجرد أنه لا يرتدي غطاء الرأس.السودان لم يستوعب الديمقراطية؛ فوقع في براثن تحالف العسكر والإسلام السياسي، واليوم هو على أعتاب التمزق والانقسام، «لكن أكثر الناس لا يعلمون».* كاتب مصري