Ad

إنّ حداثة العقل العربي الراهن، تنبع أوّلا من فعاليّته المستقلّة وثقافته النقديّة، وذلك هو بالضبط مكمن حداثة الفكر السياسي والاجتماعي، حين تتّجه مشاركة الفاعلين الاجتماعيين نحو تطوير دورهم في فعاليّات السياسة والعمل السّياسي.

يقتضي الراهن من أحوال مجتمعاتنا وأنظمتنا السياسيّة مراجعة عميقة، من أجل تجديد فكرنا السياسي، لما لهذه العمليّة من أهميّة بالغة؛ ومن صلات عميقة بقضايا الراهن العربي، بدءا من المعرفة كنطاق اشتغال ومنطلق شارط، ومن فكرة التحرّر الوطني وتحرير مجتمعاتنا من سلطة الاستبداد البطركيّة والسلطويّات البيروقراطيّة والثيوقراطيّة، الحاكمة منها أو المتنفّذة والمؤثّرة سلطويّا، داخل الفضاء العام للحياة السياسيّة والاجتماعيّة والآيديولوجيّة، وصولا إلى قضايا التنمية البشريّة والاقتصاديّة ومسائل بناء الدّولة وضمنها مسألة الديمقراطية.

إنّ السعي إلى بناء تكتّلات سياسيّة أو اقتصاديّة كبرى إقليميّة، تتجاوز الحدود القوميّة، يشكّل إسهاما بارزا في تطوير فكر سياسي خلاّق، فهو من ناحية يسهم في تقديم ما يمكن أن يغني الفكرة القوميّة، ومن ناحية أخرى يقدّم إسهامات لا غنى عنها في تنمية طاقات إنتاجيّة؛ تطوّر من قدرة المجتمعات على مواجهة إشكالات نموّها، وطرائق بناء اقتصاداتها وحياتها بشكل عام، عمليّا ومعرفيّا قبل ذلك.

ولئن لم يكن هناك من معرفة محضة، حتّى لو افترضنا وجود نوع من هذه المعرفة في معزل عن السياسة والأحداث السياسيّة أو يعيش بانفصال عنها، فإن المعرفة -وحسب فوكو- هي في واقع الحال دالة سلطة، بمعنى أنّ «كلا من السلطة والمعرفة يتضمّن الآخر مباشرة، حيث لا توجد علاقة قوى من دون مجال معرفة يمثل البنية المترتّبة عليها، ولا أيّ معرفة لا تفترض مسبقا ولا تؤلّف في الوقت نفسه علاقات قوى».

من هنا يمكن فهم ما ذهب إليه إدوارد سعيد من أنّه «طبيعي أنّ جميع الثقافات تفرض تصويبات على الواقع الخام» وهذا بالضبط هو ما يساهم في تحويل المعرفة والثقافة إلى قوّة، وفي العمل المباشر للسياسي أو للفاعلين الاجتماعيّين في توظيف الثّقافة في خدمة السّياسة.

لهذا... ولهذا تحديدا لا يمكن مقابلة ثورة الغرب المعرفيّة والتقنيّة بأصوليّة لا ثقافيّة ولا عقلانيّة، بمعنى معاداتها لكل مرجعيّة ثقافيّة أو معرفيّة، فالغرب نفسه لم يكن في مرحلة من مراحل تطوّره التاريخيّة قمينا أو جديرا بإنجازات تقدّمه وصنع ثوراته المتعاقبة، وصولا إلى ما نراه من حاله اليوم، فقد سبق ذلك مراحل من أصوليّته المتوحّشة التي يكاد العالم ينساها اليوم، بفضل ما قدّمه ووفّره ذاك الغرب فيما بعد من أسباب التقدّم والتحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي والفكري والآيديولوجي، وصولا إلى الحداثة الراهنة.

وفي عصر العولمة الراهنة اليوم، يبدو أنّه لا مناص من مشاركة الفاعلين الاجتماعيين في فعاليات السياسة والعمل السياسي، كما أنّه لا يمكن أن يصار هنالك أيّ حوار بين ضفاف العالم المختلفة، دون وقف كلّ أشكال العداء ووقف ممارسات الاشتباك العنيف بين الأصوليّات المتناحرة صاحبة الفسطاطين، وتجاوز القراءة العنصريّة -الأحاديّة- أو التراتبيّة في النظر إلى الإنسان والحضارة التي أنتجها. وهذا شرطه الشّارط تعالي الإنسان بالعقل والفكر والثّقافة الناقدة عن الطبيعة الخام للوجود البكر، وبتعالي الإنسان المفكّر والعاقل عن كلّ الغرائز وقيم وأخلاقيّات ما قبل الحضارة.

وكما أنّ المطلق السلطوي لا يمكن أن يستمر في استوائه على عرش التسلّط الاستبدادي طويلا، فإنّ المطلق المعرفي كجهالة مقنّعة؛ لا يمكن السّماح له بأن يستمر طويلا في فرض ليله الطّويل، واستوائه على عرش المعرفة أو العلم أو أيّ مجال من مجالات النشاط الإنساني؛ لا سيّما في ظلّ علمانيّة جاهلة، تدّعي انتسابها إلى العلم والعلمانيّة، بينما هي أبعد ما تكون عن حداثة العصر وعن عقل الحداثة كعقل مستقل، هو حسب محمّد أركون؛ «يخلق بكل سيادة وهيبة أفعال المعرفة، لكنّه في الآن نفسه يقرّ بنسبيّة المعرفة ونسبيّة الحقيقة، بعد مغادرته منطقة اليقينيّات وتحرّره من الأنساق والمذاهب الشاملة» ذلك أنّ العلمنة المعرفيّة هي النقيض الشّامل لعلمانيّة الجمود والفواصل المعرفيّة، أو علمانيّة المطلقات التي لا تعترف بنسبيّة المعارف والأفكار والحقائق.

إنّ الخلط بين الأسطوري والتاريخي، هو تماما كمن يخلط بين اللاعقل في الحالة الأولى في مقاربته للخرافة، والحالة الثّانية في مقاربتها للوعي وإدراكاته في أبعاده العقلانيّة المجافية لقداسة وثيوقراطيّة المعنى من جهة، واللغة-النص من جهة أخرى.

على أنّ حداثة العقل العربي الراهن، تنبع أوّلا من فعاليّته المستقلّة وثقافته النقديّة، وذلك هو بالضبط مكمن حداثة الفكر السياسي والاجتماعي، حين تتّجه مشاركة الفاعلين الاجتماعيين نحو تطوير دورهم في فعاليّات السياسة والعمل السّياسي، بمعنى المشاركة في صناعة الوعي السّياسي، إلى جانب الوعي العلمي والمعرفي، وصقل إدراكيّة ووعي الجماعة في الحياة السياسيّة؛ كأمّة من المواطنين الأحرار في إطار الدولة/الأمّة، وحتّى في أشكالها الجنينيّة السابقة على وجودها وتكوّنها كدولة/أمّة، طالما أنّ الدولة والأمة تؤمنان بالديمقراطيّة؛ منهج حياة مكتمل في إطار السّلطة بأشكالها التّداوليّة الشّرعيّة، لتكتسب الأمّة مشروعيّتها من دولة المواطنين التي تمثّلها، ولتكتسب الدّولة مشروعيّتها كذلك من كونها التّعبير الأصدق عن مرحلة تكوّن الأمّة في مسيرتها وتحوّلاتها التّاريخيّة، وصيرورتها أمّة من المواطنين الأحرار؛ المستقلّة إراداتهم كفاعلين اجتماعيّين يدركون أدوارهم في الحياة السياسيّة.

* كاتب فلسطيني