«الماينوتور» (نصف إنسان نصف ثور)، إحدى أهم الأساطير اليونانية، التي شغلت الفن والأدب والموسيقى في ثقافة الغرب، استوحاها أندريه جيد، جيمس جويس، بورخيس في الأدب، ماتيس، الجريكو، وبيكاسو في الفن، ولعل الأخير صاحبها زمناً، حتى أوقفَ عليها عصارة موهبته في لوحته «الجيرونيكا» التي رسمها عن الحرب الأهلية الإسبانية.

Ad

أما الموسيقى فانصرفت إلى شخصية أساسية أخرى من الحكاية، هي «أريادنة»، وقد وضع عنها عددٌ كبير من الموسيقيين، منذ هاندل، أعمالاً أوبرالية معروفة، إلى أن جاء المعاصرُ الإنكليزي هاريسون بيرتْ ويستل ليخصّ «الماينوتور» بعمل أوبّرالي.

موجزُ الحكاية تجري بين ملك كريت وملك أثينا، الأولُ أخلَّ بشرط إلهي فحلت عليه لعنةُ الآلهة في أن تعاشر زوجتُه ثور البحر، وتُنجب منه وليداً نصفُه إنسان والنصفُ الآخر ثور، هو «الماينوتور»، يُحبس في مبنى غامض يُسمى «المتاهة»، ويُغذى بضحايا من أهل كريت كل تسع سنوات، وللملك من زوجته بنتٌ جميلة أيضاً تُدعى «أريادنة».

أما ملك أثينا فمُبتلى باعتداءات ملك كريت، حتى اشترى منه السلامَ باتفاق أن يضحي بشبان من أبناء وبناةِ أثينا طعاماً للثور الدموي، وله ابن شجاعٌ يُدعى « ثيسيوس»، يقترحُ على أبيه أن يذهبَ خفيةً مع الضحايا إلى كريت، لقتل الثور، وهناك يلتقي بأريادنة التي تقع في حبه، فتعينه، حين يدخلُ المتاهةَ، على الخروجِ منها بحبلٍ يترك طرفاً منه معقوداً في الباب، على أنْ يُمسك الطرفَ الآخر في يده، وفي المتاهة يقتلُ «الماينوتور».

قوةُ الإيحاء في الحكاية أنها تنطوي على أكثر من عنصر يستحق أن يكونَ رمزاً، الحب العاصف بين أريادنة وثيسيوس، ثم آلام الهجران التي تتعرض لها أريادنة، قوةُ الشر التي تعيش على الضحايا (الماينوتور)، البطولة الخيرة، الساعية إلى نُصرة الضعفاء (ثيسيوس).

الموسيقي الانكليزي بيرتْ ويستل كثير الاستيحاء من الأساطير في أعماله السابقة (أورفيوس اليوناني، وغاوَيْن الانكليزي). ولأنه طليعي متعصب للتجريب فإن تعامله مع الحكايات يتم بأساليب لا تأبه للحن، قدر اهتمامها بالإيقاع والهارموني، اللحن يُعزز العنصر الغنائي في الأوبرا عادة، في حين يعزز الإيقاعُ والهارموني عنصرَ الدراما، وموسيقى بيرتْ ويستل درامية، فهو ميال إلى التلوين الصوتي الأوركسترالي، وإلى ضبط سرعة الإيقاع، من أجل أن تظل الأوبرا عنده حدثاً مسرحياً.

لا ظلَّ في هذه الأوبرا للأغنية الأوبرالية (آريا) المعهودة، التي عرفناها لدى الكلاسيكيين والرومانتيكيين، لديه حوارٌ متواصلٌ مُنغّمٌ، أسلاكُ الصوت فيه عالية التوتر، حتى ليبدو لغير ذي الدِربة صراخاً خالصاً، لكنك تشعر أن الدراما تتطلّبُ ذلك، وأنك مشدود إلى ما يحدث طيلة القسم الأول، الذي ينتهي بمذبحة الضحايا على يد «الماينوتور» في متاهته، وطيلة القسم الثاني الذي ينتهي بمقتلِ «الماينوتور» على يد ثيسيوس، وطيلة معاناة أريادنة الطامعة بالخلاص من كابوس حياتها العائلية، بين أبٍ غادرٍ، وأم خائنة، وأخٍ نصف إنسان ونصف وحش.

لقد وجدت أريادنة إمكان الخلاص في ثيسيوس، ولكن بغير اطمئنان، أما «الماينوتور» فلم يكن وحشاً خالصاً، فالصراعُ بين نصفيه لا يهدأ، إنه يقتلُ ويغتصبُ لأنه حيوان ومحض غريزة، وما من خلاص، لكنه كإنسان يتمتع بحياة داخلية متأملة وأكثر غنى، تزوره كأحلام. وصراعُ الشخصين يمنحُ ثقلاً درامياً إضافياً للأوبرا.

الموسيقى الأوركسترالية تحتضن الشخوص، وأحيانا تُصبح بعض الآلات الموسيقية امتداداً لأصواتهم، وأوضحها آلةُ الساكسفون الخفيضة المرتبطة بصوت أريادنة.

هذا العمل الأوبرالي المثير عُرض في دار الأوبرا في الكوفن غاردن في ربيع هذا العام، تحت قيادة الإيطالي أنتونيو بابانو للأوركسترا الملكية. وبصوت المغنين جون توملينسون (الماينوتور)، جون روتر (ثيسيوس)، كرستين رايس (أريادنة). لكني، وفي مطلع الشتاء، أُفضلُ أنْ أكتفي بشاشة التلفزيون لمشاهدته، في تسجيل «DVD» صدر هذه الأيام عن دار النشر «Opusarts».