Ad

لاشك في أن الوجدان الواحد بين مشرق الوطن العربي ومغربه لم يتلاش ولم يختف، لكن ما بات واقعاً يجب الاعتراف به هو أن السنوات الأخيرة شهدت تباعداً تحتاج معرفة أسبابه الحقيقية إلى دراسات، وإلى ندوات متخصصة وإلى خبراء في السياسة والاقتصاد والاجتماع.

في السنوات الأخيرة ازداد تباعد مغرب الوطن العربي عن مشرقه، فلم يعد الأمر مجرد تخمين وانطباع عابر، وذلك إلى حد أن الحضور المغاربي في القضايا المشرقية، حتى القضايا القومية كقضايا فلسطين والعراق ولبنان، غدا مقتصراً على الجامعة العربية وأطرها، بينما الحضور الشرقي في القضايا المغاربية وأهمها قضية الصحراء الغربية «البوليساريو» غدا معدوماً ولم يعد كما كان عليه في الخمسينيات والستينيات... وبعد ذلك حتى نهايات القرن الماضي.

كانت القضية الجزائرية قضية عربية التقى حولها العرب كلهم الذين يعتبرون أنفسهم قوميين وتقدميين وحلفاء للمعسكر الشرقي والاتحاد السوفييتي والذين يُعتبرون من قبل الآخرين رجعيين وحلفاء للمعسكر الغربي الاستعماري والإمبريالي، وكانت عواصم المشرق العربي، وأولاها القاهرة، مراكز لقادة حركة التحرر الوطني المغربية والجزائرية والتونسية، وكان الحبيب بورقيبة في ذروة نضاله التحرري ضد الاستعمار الفرنسي قد لجأ إلى فلسطين ومصر، وقبله كان عبدالقادر الجزائري بعد فشل ثورته قد لجأ إلى دمشق وأصبح أحد رموز وقادة العرب في هذه المنطقة.

إن أول معسكر أقيم للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي ولدت عملياً في الكويت وأُعطيت «فتح» اسم جناحها العسكري «العاصفة» في اجتماعٍ على شاطئ «الصليبخات»، كان في الجزائر وإن قرار اعتبار منظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني اتخذته قمة عربية انعقدت في الرباط عام 1974، وإن لجنة القدس رأت النور في المغرب وترأسها الملك الحسن الثاني، رحمه الله، وبقي رئيساً لها حتى وفاته.

كانت هموم المغرب العربي هي هموم المشرق العربي... لقد كان الوجدان واحداً وكانت الاهتمامات اليومية واحدة وكان الطلبة في المدارس يرددون في الصباح ليس الأناشيد الوطنية لدولهم وأقطارهم إنما:

بلاد العرب أوطاني مـن الشام لبغدان

ومـن نجدٍ إلى يمن إلى مصر فتطوان.

كان الحضور المغاربي في المشرق والحضور المشرقي في المغرب ليس «ديكورياً» كما هو الآن... وذلك مع أن هذه الثورة في تقنية الإعلام والمعلومات ما كانت قد وصلت إلى ما وصلت إليه... كانت التنظيمات والاتحادات الطلابية، وكانت القوى السياسية والحزبية تقف على أرضية واحدة، وكان أهل حلب وصور والرياض وتعز والبصرة، قد عاشوا وجع الغارات الجوية الفرنسية على «بنزرت» في بدايات ستينيات القرن الماضي، كما عاشه أهل صفاقص و«المونستير» والقيروان.

لاشك في أن الوجدان الواحد بين مشرق الوطن العربي ومغربه لم يتلاش ولم يختف، لكن ما بات واقعاً يجب الاعتراف به هو أن السنوات الأخيرة شهدت تباعداً تحتاج معرفة أسبابه الحقيقية إلى دراسات، وإلى ندوات متخصصة وإلى خبراء في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وتحتاج إلى وقفة جادة من قبل الجامعة العربية التي غدت مستنزفة من قبل المشاكل والإشكالات «المشرقية» وعلى رأسها بالطبع القضية الفلسطينية، ثم قضية العراق وقضية لبنان وقضية دارفور وقضايا الصومال وجيبوتي في القرن الإفريقي.

إن هناك من يقول إن الهموم الاقتصادية هي السبب وإن هناك من يرى أن تراجع فكرة الوحدة العربية هو المسؤول، وإن هناك من يرى أن «المغاربة» ملَّوا قضايا ومشاكل أشقائهم «المشارقة» المعقدة والكثيرة، وإن هناك من يقول إن السبب يكمن في أن أهل الشرق العربي يتعاملون مع إخوتهم في الغرب بـ«نرجسية» وتعال... ثم وهناك من يعتقد جازماً أن هذه هي سمة هذا العصر، حيث أصبح حتى الجار الغارق في همومه لا يعرف اسم جاره، وأصبح الابن لا يرى أمه وأباه إلا في المناسبات المتباعدة، ولا يرى إخوته إلا ربما مرة واحدة في العمر كله.

لكن النتيجة وبغض النظر عن كل هذه المبررات والأعذار هي أن هناك تباعداً متواصلاً ملموسا وواضحا بين مشرق الوطن العربي ومغربه، في حين أن المفترض أن تكون للعرب كتلتهم الاقتصادية والسياسية والثقافية والحضارية في زمن كل هذه التكتلات الدولية والإقليمية كالاتحاد الأوروبي، وكالوحدة الإفريقية وكتجمع دول الشرق الأقصى، وكتحالف الولايات المتحدة مع كندا والمكسيك.

* كاتب وسياسي أردني