استضافت «مكة المكرمة» عاصمة المسلمين المقّدسة وعلى مدى ثلاثة أيام «المؤتمر الإسلامي العالمي الأول للحوار» الذي نظّمته رابطة العالم الإسلامي، بحضور أكثر من «800» شخصية من الزعماء والرموز الإسلامية من المذهبين السني والشيعي ومن داخل العالم الإسلامي وخارجه، وقد افتتح خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز المؤتمر بكلمة أكّد فيها، أنه دعا لهذا المؤتمر «لمواجهة تحديات الانغلاق، والجهل، وضيق الأفق، وليستوعب العالم مفاهيم وآفاق رسالة الإسلام الخيّرة، دون عداوة واستعداء» وخاطب المجتمعين قائلاً: «إنكم تجتمعون اليوم لتقولوا للعالم -وباعتزاز أكرمنا الله به- إننا صوت عدل وقيم إنسانية أخلاقية، وإننا صوت تعايش وحوار عاقل وعادل، صوت حكمة وموعظة وجدل بالتي هي أحسن» كما أكد فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -المفتي العام للسعودية- في كلمته، بأن «الحوار بين البشر من ضروريات الحياة، وهو وسيلة للتعارف والتعايش وتبادل المصالح بين الأمة»، موضحاً العلّة في ذلك بأن «الخلاف بين الناس أمر موجود في طباعهم وأخلاقهم، وهم متفاوتون في ألسنتهم وألوانهم وطباعهم وعقولهم، سنّة كونية، وإن اختلاف الناس في آرائهم ومعتقداتهم، قضية أقّرها القرآن».

Ad

انعقاد هذا المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار بين كل المذاهب الإسلامية، وفي السعودية -مركز العقيدة السلفية، ومعقل الفكر السلفي- له دلالات بالغة الأهمية، خصوصا أن هذا المؤتمر يأتي في سياق متغيرات سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية واسعة ومتسارعة تجتاح المجتمعات العربية والإسلامية، كما يأتي هذا المؤتمر في أعقاب أحداث مهمة من أبرزها:

-1 «اتفاق الدوحة التاريخي» الذي أثمر انفراجة سياسيه كبيرة في الساحة اللبنانية تمثلت في إعادة البهجة والفرحة إلى نفوس اللبنانيين بعد سلسلة معاناة مريرة، كما كانت له « تداعيات» إيجابية عامة تمثلت في انتعاش الآمال بحصول انفراجات أخرى للأزمات العالقة في الساحة الإقليمية في العراق وفلسطين واليمن والسودان وسورية وإسرائيل وإيران والخليج.

-2 كما يأتي هذا المؤتمر في وقت تشهد فيه «الساحة العراقية» انحسار العمليات الإرهابية بوجهيها -القاعدي والصدري- فبعد أن تمكنت القوات الأمنية العراقية من تصفية ميليشيات المهدي، لحقت أتباع «القاعدة» إلى أوكارهم الأخيرة في «الموصل» وأحاطت بهم فسقط بعضهم واعتقل أكثر من «1500» منهم ولاذ الآخرون بالفرار، وهكذا بدأ الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة في العراق وبقية الدول العربية، كما بينت الاستطلاعات تراجع التعاطف الشعبي مع أعمال «القاعدة». لكن الإرهاب إذ سقط صريعاً وأصبح محاصراً بفعل الضربات الأمنية الاستباقية إلا أن «الفكر الإرهابي» مازال نشيطاً وفاعلاً في الساحة عبر المواقع الإلكترونية المتطرفة والفتاوى التحريضية التي تكفر الآخر المذهبي وبعض الخطب الدينية التي تشحن نفوس النشأة بمفاهيم تعصبية ضد الآخر. مازال «الفكر الإرهابي» يجتذب بعض الشباب إلى مصيدته المهلكة ومازال هذا الفكر العدمي يفرز سمومه القاتلة ويحوّل شباباً في عمر الزهور إلى مشروعات للقتل والانتحار، كان آخرها، التفجير الانتحاري الذي استهدف السفارة الدنماركية في باكستان فقتل ثمانية أشخاص وأصاب عشرين شخصاً كلهم باكستانيون، ومن الغريب أن يعلل هذا العمل الإرهابي بأنه يأتي على خلفية «الرسوم المسيئة»!! ما علاقة «الرسوم المسيئة» بقتل مسلمين أبرياء؟!

ومن هنا نتفهم دعوة خادم الحرمين الشريفين في كلمته عندما قال «ما أعظم قدر هذه الأمة، وما أصعب تحدياتها في زمن تداعى الأعداء من أهل الغلو والتطرف من أبنائها وغيرهم على عدل منهجها، تداعوا بعدوانية سافرة، استهدفت سماحة الإسلام وعدله وغاياته السامية»

-3 يأتي هذا المؤتمر الإسلامي العالمي كثمرة أو إفراز لسلسلة من المؤتمرات الحوارية بين مختلف الأطياف الوطنية في السعودية، إذ لا يخفى على المتابع والراصد للساحة الفكرية والثقافية في المملكة أنه على امتداد عدة سنوات هناك حراك اجتماعي وثقافي وديني وسياسي لم يكن موجوداً من قبل، وهذا الحراك الواسع أفرز هامشاً عريضاً للحريات الفكرية ومكّن لأصوات المهمّشين من الطائفة الشيعية والإصلاحيين الليبراليين وكذلك المرأة من الظهور على الساحة الإعلامية التي هيمن عليها الرأي الأحادي السلفي وحده أمداً طويلاً.

-4 لعلنا نتذكر في هذا السياق أن هناك عدة مؤتمرات إسلامية كبيرة سبقت هذا المؤتمر من أبرزها «المؤتمر الإسلامي» بعّمان، بمشاركة «180» عالماً ومفكراً من المذاهب الإسلامية الثمانية «7-7-2005» وأصدروا «بيان عمّان» الذي تضّمن «تحريم تكفير أتباع المذاهب الإسلامية وحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم» و«ضرورة احترام الرأي والرأي الآخر في العالم الإسلامي».

ولا يفوتنا في هذا الصدد الإشارة إلى سلسلة المؤتمرات السبعة التي احتضنتها الدوحة حول «حوار الأديان والمذاهب الإسلامية» وكذلك احتضنت المملكة العربية السعودية لقمة «مكة» التي جّرمت الفتاوى «التحريضية» وتبنت وثيقتي «بلاغ مكة» و«خطة العمل العشرية لمواجهة تحديات القرن 21» ونتذكر بيانها الختامي الذي أكّد عزم قادة العالم الإسلامي على مواجهة الفكر المتطرف -المتستر بالدين والمذهب- وإدانة الإرهاب بكل صوره وأشكاله -دعماً وتمويلاً وتحريضاً- ومطالبتهم بتجريمه، رافضين كل المبررات والمسوّغات المروجّة له وقد تضمن هذا البيان ولأول مرة: «إقرار المؤتمرين -صحة إسلام- كل المذاهب الإسلامية المؤمنة بأركان الإسلام» وذلك لقطع الطريق على الفتاوى التي تكفر الشيعة في العراق كتبرير للعمليات الإرهابية «ديسمبر 2005» كما اهتمت «قمة مكة» بمسألة الفتاوى الدينية التي تحرّض على الكراهية وتحقير المخالفين في المذهب أو الدين وطالبت بـ«مرجعيه فقهية» موحّدة للحد من الفتاوى العشوائية التي فرّقت المسلمين ودفعت بآلاف الشباب إلى محاضن التطرف وتسببت في هلاكهم وسفك دماء آلاف الأبرياء تحت مسمى «الجهاد».

إذن لا يأتي هذا المؤتمر بمعزل عن المؤتمرات السابقة إنما يأتي مكملاً للجهود والخبرات المتراكمة، ولكن ما تميز به هذا المؤتمر أنه الأضخم في سلسلة المؤتمرات الحوارية، إذ ضم أكثر من «800» شخصية إسلامية، وكذلك لم تقتصر الدعوة على علماء المذاهب الإسلامية في العالم الإسلامي، بل شملت ممثلين عن كل الأقليات الإسلامية في العالم، فلم تترك أقلية مسلمة في العالم إلا وجهت لها الدعوة.

الآن: ما أهداف المؤتمر؟ ولماذا عقد بمكة المكرمة؟ وضّح الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن التركي -الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي- هدف المؤتمر بأنه «التأصيل الشرعي لمفهوم الحوار الإسلامي مع أتباع الأديان والثقافات والحضارات المختلفة في العالم».

وهذا التأصيل الشرعي مهم خصوصا إذا أدركنا أن هناك «دعاة» يرفضون مبدأ الحوار مع الآخر المختلف «مذهباً» كالشيعة والصوفية والأشاعرة والأباضية أو «ديناً» كغير المسلمين بحجة أن الآخر من أهل الضلال والبدع والشرك والعقائد الفاسدة أو الباطلة، ولا حوار بين الحق والباطل، لأن الحوار يقتضي الاعتراف بشرعية الآخر، وهذا يلتزم الإقرار بصحة ما هم عليه من بطلان وفساد، ولذلك سارع نحو «20» عالماً وداعية سعودياً إلى رفض المؤتمر، وهاجموا المذهب الشيعي لأنه يقول بعصمة أئمتهم، ونشروا بيانهم على عدد من المواقع الإلكترونية لذلك سارع الأمين العام الدكتور التركي بالرد عليهم بقوله: «إن بعض الأشخاص ربما عندهم لبس، ويتصورون أنه يتناول وحدة الأديان أو التنازل عن الأحكام الشرعية، وهذا غير وارد أصلاً، لأن المؤتمر سيركز على المشترك الإنساني» كما أشار إلى أن المؤتمرين سيضعون «خطة استراتيجية للمستقبل» تتضمن منهاج الحوار وآلياته وآدابه وضوابطه والجهات التي يتم التحاور معها، وما ينبغي أن تكون عليه المؤتمرات المقبلة بالنسبة لحضور حاخامات ورهبان من الديانتين المسيحية واليهودية. ولهؤلاء الرافضين لمبدأ الحوار أقول: إنه لا يلزم من الحوار مع الآخر، الإقرار بصحة ما عليه ولكن الإقرار بحقوقه وكرامته وإنسانيته مصداقاً للآية الكريمة «ولقد كّرمنا بني آدم» وحسابه على الله.

لا شك أن أهداف ومقاصد المؤتمر شرعية وإنسانية وسامية ولكن الملاحظ في مؤتمر يستهدف إرساء قواعد للحوار مع الآخر -غير المسلم- غياب هذا الآخر، وهذا يثير بعض التساؤلات حول الحكمة من عدم دعوته للحضور لسماع وجهة نظره، فذلك أبسط حقوقه في الحوار، ثم إذا كان من الأهداف تعميق أو تعزيز المشترك الديني بين كل المذاهب الإسلامية تحت شعار «نتعاون في ما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه» أو بناء على المأثور «اختلاف أمتي رحمة» و«لا يفسد الخلاف للود قضية» إلا أن الأكثر أهمية -في عالم اليوم وفي مجتمعاتنا المعاصرة- التقارب بين أتباع المذهب الواحد وأبناء المجتمع الواحد بإعلاء مبدأ «المواطنة» وتفعيل «الوحدة الوطنية» لأن الخطاب «التكفيري» و«التخويني» اليوم لا يستهدف الآخر المذهبي فحسب، بل أصبح سيفاً مصلتاً على رقاب المنتمين للمذهب الواحد، لقد أصبحنا اليوم عاجزين عن إقامة علاقات المودة والحوار بين عناصر المجتمع الواحد فضلاً عن المجتمعات بعضها ببعض، أما الملاحظة الثالثه فتتعلق بكيفية تفعيل مبدأ «الحوار» في بيئة مناهضة لثقافة الحوار!! إذ لا يكفي التأصيل الشرعي لمفهوم الحوار الديني إذا كانت المناهج الدراسية وجانب من الخطاب الديني والإعلامي والتربوي السائد يتبنّى منهجاً أحادياً يحتكر الصواب، ويضيق بالرأي الآخر، ويسارع إلى تصنيف الخصم ورميه واتهامه بهدف تقبيح صورته وإفحامه كسباً للشعبية والنفوذ والشهرة الإعلامية.

كلنا أمل في أن يتجاوز «حوار مكة» الحواجز القائمة بين المذاهب الإسلامية بفعل الموروثات التاريخية والرواسب النفسية والمفاهيم التعصبية. كلنا أمل في أن ينجح «حوار مكة» في إصلاح ذات البين.

* كاتب قطري - بالمشاركة مع «الوطن» القطرية