كان صدمة للكثيرين إعلان المملكة العربية السعودية القبض على 520 شاباً شكلوا 5 خلايا إرهابية لضرب منشآت نفطية وعسكرية في المنطقة الشرقية، ومبررات هذه الصدمة، أن الكثيرين خصوصاً من المتابعين لجهود السعودية في مكافحة العمليات الإرهابية ظنوا أن الإرهاب قد لفظ أنفاسه وانتهى، ولكن ها هو الإرهاب يطل برأسه من جديد، وبهذا العدد الكبير وبتلك المخططات الجهنمية التي لولا يقظة الأمن وسرعة مبادراته وإجهاضه لتلك المخططات لحلت كارثة بترولية وبيئية على منطقة الخليج بأسرها مثلما حصل عندما عمد النظام العراقي السابق إلى حرق آبار البترول في الكويت.

Ad

وإذا تذكرنا أن المواجهة الأمنية النشيطة قد نجحت على امتداد 5 سنوات في إحباط أكثر من 194 عملية إرهابية، فضلاً عن تصفية 3 قوائم أمنية متتالية، هالنا أن يتمكن الإرهاب من اصطياد 520 شاباً وتجنيدهم في مشروعاته المدمرة، وأغلبية هؤلاء الشباب سعوديو الجنسية، وكثيراً ما سمعنا بعض المسؤولين السياسيين والأمنيين يردد ويهدد بعبارات مثل «اجتثاث الإرهاب» و«اقتلاعه من جذوره» و«تجفيف منابعه»، ولكن الواقع المشاهد يقول شيئاً آخر تماماً!

الواقع العربي يشهد انتعاشاً للعمل الإرهابي في العديد من مناطقه؛ في المغرب تم اعتقال 35 شاباً في شبكة لتجنيد المتطوعين لتنظيم «القاعدة»، وفي الجزائر يؤكد زعيم «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي انضمام عناصر جديدة من المقاتلين من الجزائر وموريتانيا وليبيا والمغرب ومالي ونيجيريا، وتكشف اعترافات إعلاميي «القاعدة» عن عمليات استقطاب وتجنيد واسعة عبر الإنترنت، كما تم الكشف عن 20 شبكة لدعم «القاعدة» في الجزائر، و«الحربي» كان ثالث انتحاري كويتي في العراق بعد «العجمي» و«الدوسري»، وتشير المعلومات إلى 20 كويتياً مع «طالبان» و18 يقاتلون في العراق.

أما في البحرين، فقد أعلنت السلطات القبض على مواطن قبل التحاقه بجماعة إرهابية، وقد أصبحت «باكستان» المركز المفضل لتجنيد الإرهابيين، وأما «موريتانيا» فقد أضحت الملاذ الآمن للأصوليين الحركيين كلهم الذين يسعون للإطاحة بأنظمة المنطقة، وفي اليمن يُحاكَم تنظيم إرهابي كان يستهدف تفجير منشآت النفط، التي أصبحت الهدف المفضل للإرهابيين، وفي بريطانيا صرّحت «الداخلية» بأنها تراقب 2000 شخص و200 شبكة خططت لـ30 عملاً إرهابياً.

ما دلالات ذلك كله؟ أولى الدلالات أن الخطر الإرهابي -خليجياً وعربياً ودولياً- خطر حقيقي ومتفاقم، وليس كما يصوره بعض «الواهمين» مجرد «فزاعة» أميركية ضد العالم، والخطر الإرهابي يشكل أكبر تهديد لمجتمعاتنا، لا كما يظن هؤلاء الصحافيون «المناضلون» الذين قالوا في استطلاع للرأي إن خطورة أميركا على المنطقة أعظم من خطورة الإرهاب.

أما ثانية الدلالات، فهي أن الدراسات واستطلاعات الرأي كلها التي تشير إلى تراجع شعبية «القاعدة» في العالم الإسلامي، إما أنها تتجاهل المد الواسع للعنف في الساحتين العربية والإسلامية، وإما أنها تحاول تجميل الصورة الخارجية. والأعجب أن نسمع أن هناك مؤتمراً عالمياً تنظمه الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لاقتلاع جذور الإرهاب! وكأن الإرهاب فسيلة يسهل اقتلاعها بالمؤتمرات!!

أيها السادة: كفانا ضحكاً على أنفسنا وعلى الناس، الإرهاب شجرة غائرة الجذور، له منظروه ومفتوه وخطباؤه وإعلامه ومناهجه وممولوه ورعاته، سواءً على مستوى المجتمع المحلي أو الاقليمي، وتشير التقارير إلى أن هناك 3 دول إقليمية تحولت إلى ملاذ للإرهابيين، وقد جعلت تلك التنظيمات من أراضي هذه الدول معسكرات للتدريب والدعم اللوجستي الذي تقدمه إلى عناصرها في «مناطق الفتن».

كيف نفسر استضافة إيران لـ100 من قيادات «القاعدة» ومنحهم الملاذ الآمن واستخدام الهواتف وغيرها؟!

لماذا تنفق إيران بسخاء على جماعات التمرد -السنية والشيعية- الساعية إلى تقويض الأنظمة العربية؟!

أما الدلالة الثالثة والأخطر لتفشي هذا الفكر القاتل، فهي خطأ «التشخيص» لظاهرة الإرهاب، ذلك التشخيص السطحي الذي يرى أن الإرهاب ما هو إلا مجرد «ردة فعل» لـ«مظالم» أميركا ضد المسلمين في أفغانستان والعراق وفلسطين، أو ردة فعل لـ«عنف» السلطة العربية، أو «صرخة» احتجاج ضد شيوع المعاصي والمنكرات وخروج المرأة، أو أنه وليد «الفقر» والبيئة المطحونة، وقد أبعد من زعم أنه «إفراز» أيديولوجي لعصر الهيمنة الأميركية و«ردة فعل» ضد العولمة، ولعل أخبث التشخيصات تلك التي تزعم أنه رد فعل للتطرف «العلماني».

تلك التشخيصات كلها التي تتوسل بذرائع خارجية، تشخيصات مغلوطة، وهدفها الأساسي خدمة أجندة أيديولوجية لجماعات تنازع السلطة، فتستغل الظاهرة الإرهابية لترويج طروحاتها، وتقدم نفسها إلى الجماهير باعتبارها ممثلة لـ«الوسطية والاعتدال» القادرة على كبح جماح التطرف وحماية المجتمع والنظام، وهي مزاعم لا سند لها من الواقع، ينقضها أن تلك الجماعات هيمنت طويلاً على المناهج والمنابر والمؤسسات وفشلت في تحصين شبابنا أمام غزو الفكر المتطرف. إن الإرهاب يفسر نفسه بنفسه وليس بحاجة إلى البحث عن دوافع خارجية، الإرهابيون أنفسهم يعلنونها صريحةً، أن هدفهم دولة «دينية» على نمط «طالبان»، وأن عملهم «جهاد»، وأن منطلقهم «العقيدة»... فلماذا المناورة والخداع الجماهيري بالنفخ في الذرائع الزائفة؟!

بينما «خالد شيخ محمد» العقل المدبر لهجمات سبتمبر يقرر أنه سيعترف بالتهم الموجهة إليه لأنه يريد أن يموت «شهيداً»، نجد قطاعاً جماهيرياً عريضاً ورموزاً دينية وأمنية مازالت على قناعاتها الأولى بأن هجمات سبتمبر من عمل «الموساد» أو «المخابرات الأميركية» لضرب الإسلام!

علينا أن نعترف أن مظالم أميركا شملت المجتمعات كلها، وأن شعوباً كثيرة تعاني الفقر، وأن المعاصي والمنكرات ملازمة للإنسان، لكن لا أحد يفجر نفسه من أجل تلك الأمور، فلماذا يفجر المسلم نفسه؟!

الحياة عزيزة، والانتحاري المسلم لا يضحي بنفسه إلا من أجل الغالي والنفيس، وهو إذا قرر أن يغادر هذه الحياة ويفارق الأهل والولد، فمن أجل «عقيدة» غلابة ومستحكمة، إنها عقيدة «الجهاد» التي يظنها طريقه إلى «الجنة» ونعيمها. وإن المحاولات كلها الرامية إلى التهرب من هذه الحقيقة نوع من خداع الذات، ودفن الرأس في الرمال.

لا أحد يطالب بعدم تدريس الجهاد ولا مبرر لذلك، ولكن يجب تدريس الجهاد وفق منظور عصري يتواءم وواقع العلاقات الدولية لا واقع عصر «الخلافة» القديم، وكما هو في الكتب الفقهية، ومن هذا المنطق لا ينبغي السماح، كما يقول الكاتب السعودي «علي سعد الموسى»، للخطيب في مسجده الجبلي بأن يصرخ باكياً: أحوال «إخوانكم» في الشيشان والسودان وغزة وأفغانستان، ويسيل صوته كالشلال الهادر، مقرعاً الجموع أمامه التي تقاعست عن نصرة الإخوة، حسب مفهومه للجهاد. فمثل هذه الخطب النارية فضلاً عن التهيئة التعليمية المغلوطة، هي التي تبرمج عقول شبابنا، وتجعلهم مشاريع للشهادة!! ويأتي كبار مشايخنا ليستنكروا الإرهاب، وليصفوا هؤلاء الشباب بأنهم فئة «ضالة»! من الذي ضلّلهم؟ أليس هو ذلك الخطيب المحرض؟ أليس هو ذلك المعلم الذي لقّنهم الجهاد تلقيناً عدوانياً؟ فلماذا نحاكم المغرر بهم ولا نحرك ساكناً ضد المحرضين والملقنين؟!

سيظل الإرهاب -معربداً- في الساحة ما لم تواكب الجهودَ الأمنية جهودٌ فكرية تقوم على تجديد الخطابين التعليمي والديني، وتأهيل المعلم والداعية تأهيلاً ثقافياً مستنيراً. معركتنا مع الإرهاب ستطول مادامت هناك «منابر» دينية تزرع الكراهية وترسخ التعصب وتشيع الإقصاء وتدعو على الأمم الأخرى بالهلاك.

سيبقى الفكر الإرهابي مزدهراً مادام مشايخ «التكفير» يحرضون على المثقفين وهم في مأمن من المساءلة.

ستستمر معاناة مجتمعاتنا من ويلات الإرهاب مادام هناك مَن يبذر له، ومَن يبرره ويلتمس له معاذير خارجية، ومادامت «محاضنه» دافئة وآمنة.

* كاتب قطري