الواقع أننا نتشكك اليوم في وجود خارج جاهز يمكن منه مقاربة الطائفية مقاربة نقدية متسقة وغير طائفية، بل نسلم بأن غياب هذا الخارج هو ما يشرط تفشي الطائفية في ثقافتنا أو تسرب الملوثات الطائفية إلى المياه الجوفية لوعينا العام. فهل يمتنع من الأصل بناء موقع خارج طائفي، متحرر من الطائفية؟

Ad

على نحو ما كتب إدوارد سعيد عن «الثقافة والإمبريالية» متقصيا آثار الإمبراطوريات الاستعمارية في الآداب الإنكليزية والفرنسية بخاصة بوصفها وضعا مستبطنا أو شرط إمكان جزء من تلك الآداب أو بعض تيماتها، ربما يتعين التفكير في تقصي آثار الطائفية في الأدب والثقافة في المشرق العربي. ثمة سجل واسع في هذا الشأن تلزم متابعته والاطلاع عليه. ويقيني أن تلك الآثار هائلة إلى درجة أنه لا يكاد يكون ثمة موقع ثقافي وأخلاقي خارجها، تتيح لنا الإقامة فيه تقصيها بصورة منزهة عنها. وهو ما يعني أن الشرط الأول لدراسة قد يكون عنوانها الطائفية والثقافة في المشرق العربي غير متوافر اليوم، إنما لذلك تجازف أي مقاربة للطائفية في الوقت الراهن أن تقع في أفخاخها، فتكون مقاربة طائفية أو ملوثة بالطائفية، ما يعمق الانغراز في الطين الطائفي، ويجعل بناء خارج أخلاقي وسياسي ومعرفي لدراسة الظاهرة أشد تعذرا.

من هذه الأفخاخ اعتبار الطائفية تعبيرا طبيعيا للطوائف، أو اعتبار الطوائف ذاتها معطيات طبيعية أو موروثة، منفصلة عن هياكل السلطة والثروة وأنماط الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية، التي بالعكس لا تعدو كونها تعبيرا عنها، ويتصل بذلك الميل الشائع إلى تفسير السياسة بالطائفية بدل تفسير الطائفية بالسياسة، وهذا الميل الذي يضفي على الطائفية صفة أولية ومقرِّرة هو أيضا مكمن عميقة للتفكير والسلوك الطائفي يحصل كثيرا ألا يتبينه معترضون على الطائفية مخلصون.

ومن الأفخاخ أيضا توهم تجاوز الطائفية عبر اعتناق إيديولوجيات ونظم تفكير حديثة كالقومية والعلمانية والماركسية والليبرالية وما إليها، والحال أن الشرط المؤسس لدراسة الثقافة والطائفية هو التشكك في هذا الزعم، وإلا فإن ثقافتنا تغدو كلها منزهة فعلا عن الطائفية، نظرا إلى أن هذه ليس نِحلة يفضل المرء أن ينتحلها، فإذا تعمدنا التأليف في مسألة الطائفية دون وعي «معادلات التحويل» بين مذاهبنا المحدثة وانتماءاتنا الموروثة، ودون الاهتمام ببناء خارج متحرر منها، فقد نجدد أقنعة الطائفية بدل أن ننسلخ منها تماما. إن فكرة معادلات التحويل تلك وتقصيها في حالات عيانية موضوعان أساسيان لدراسة الثقافة والطائفية.

ومن الشروط المهمة أيضا لدراسة الطائفية والثقافة تجاوز منطق الاتهام والتبرؤ الذي يحكم أكثر مقاربات الظاهرة اليوم. هذا المنطق ليس غير مؤهل فقط لمقاربة نقدية للطائفية، ولا هو يساهم في تلويث المناخ الثقافي والسياسي العام في بلداننا فقط، إنما هو يخفق في تبين أن الطائفية شرط اجتماعي وثقافي وسياسي عام، وليست رذيلة فردية أو فئوية، يحدث أن يصاب بها البعض دون الآخرين.

ليس الطائفي هو الآخر، المنحدر من جماعة دينية أو مذهبية أخرى؛ الطائفي هو شرطنا العام الذي نتشكل به بمقدار ما لا نعيه ولا نقاومه، هذا لا يعني أن دراسة الطائفية والثقافة تتغافل عمن يحتمل أنهم مسؤولون أكثر من غيرهم عنها، لكنها لا تستطيع الكلام على المسؤوليات بإنصاف دون بلورة نظرية متماسة حول الشرط العام الطائفي أو عن الطائفية كشرط عام.

وتطوير أدوات نظرية ومنهجية مناسبة من جهة، وبناء موقع مستقل عن الطائفية أو خارج متجاوز لها من جهة ثانية، هما شرطا الإمكان الإيجابيان لدراسة نقدية للثقافة والطائفية.

والواقع أننا نتشكك اليوم في وجود خارج جاهز يمكن منه مقاربة الطائفية مقاربة نقدية متسقة وغير طائفية، بل نسلم بأن غياب هذا الخارج هو ما يشرط تفشي الطائفية في ثقافتنا أو تسرب الملوثات الطائفية إلى المياه الجوفية لوعينا العام. فهل يمتنع من الأصل بناء موقع خارج الطائفي، متحرر من الطائفية؟ نسلم تسليما بأنه غير ممتنع، لكنه صعب جدا. على أن تحديد مدى صعوبته يقتضي تحديد خصائص الموقع خارج الطائفي.

قد يمكن تعريفه بإحداثيات ثلاثة، سياسي ومعرفي وأخلاقي: ويتمثل الإحداثي السياسي في بنيان وطني قائم على المساواة القانونية والسياسية بين مواطنين أفراد، دون التمييز بينهم على أساس الدين والمذهب ودون أن يكون لأي دين أو مذهب نفاذ تفاضلي إلى السلطة السياسية. ولا يتمايز البنيان الوطني المقصود هنا عن الجماعات الدينية والمذهبية، بل كذلك عن كل من فكرتي الأمة العربية والأمة الإسلامية، والأصل في ذلك أن هاتين معا غير مؤهلتين لتمنيع مجتمعاتنا ضد الطائفية، وهذا لأنهما تضعفان الدولة من فوقها لمصلحة ولاءات وانتماءات عابرة للدول والثقافات، ما يجعلها هشة أمام اختراقها من تحتها لمصلحة ولاءات وانتماءات جزئية.

والأساس في الإحداثي المعرفي هو تطوير مقاربة متعددة المناهج بأصول المشكلات الطائفية. يتعين تجاوز المقاربة الاجتماعية السياسية السائدة والتفكير في مقاربات تنفتح على علوم التاريخ وعلم النفس والثقافة والاقتصاد وغيرها من أجل «قبض» معرفي محكم على هذه الظاهرة المراوغة.

ومن الوجهة الأخلاقية يمكن تعريف الموقع خارج الطائفي بأنه يقوم على مبدأ المساواة الجوهرية ليس بين الأفراد فقط إنما بين الهويات الجمعية. المسلمون والمسيحيون، السنيون والشيعة والعلويون... (العرب والأكراد) متساوون في الجدارة الإنسانية وفي القيمة الإنسانية لمواثيق إيمانهم أو انتماءاتهم. والطائفية هي قول العكس، ولعله لا يكفي في هذا المقام الكلام على القدرة على تقمص الآخرين، أفراداً أم جماعات، بل ينبغي أن يقترن الوقع المضاد للطائفية بمقاومة إيجابية لكل أشكال التمييز الديني والمذهبي.

للأسف هذه الشروط غير متاحة اليوم، وقد ينقضي وقت طويل قبل أن تتاح، ويفضل أكثر المثقفين تبرئة أنفسهم من الطائفية أو اتهام آخرين بها، أو الناي بأنفسهم عن هذه البؤرة الخطرة التي حصل بالفعل أن أحرقت كثيرين، لكن هذا إما مضر وإما لا يجدي.

ما قد يثمر، وإن بعد حين قد يطول، هو الانضباط الذاتي قدر الإمكان بهذه الشروط، وإنتاج تحليلات ودراسات ملتزمة بها، إلى حين تكسب جهود في هذا الاتجاه المعركة العامة ضد الطائفية، في السياسة وفي الثقافة معا... إلى حين نتجاوز الشرط العام الطائفي.

* كاتب سوري